كيف تبقى بويضات المرأة صالحة للتخصيب لعشرات السنين؟ العلماء يكشفون السر

3 د
توصل فريق بحثي إلى آلية تفسر بقاء البويضات البشرية حية لعشرات السنين.
تتبنى البويضات استراتيجية "الاقتصاد الشديد" لتحمي نفسها من التلف لفترات طويلة.
قامت الدراسة بفحص نشاط الخلايا داخل البويضات وكشفت انخفاضه بنسبة 50%.
توضح هذه النتائج إمكانات جديدة لتعزيز علاجات الخصوبة وتحسين فرص الحمل.
في قصص العلم غالباً ما تختبئ الأعاجيب في تفاصيل صغيرة، ومؤخراً ألقى فريق بحثي خيطاً ضوءً جديداً على واحدة من أقدم أسرار الجسد البشري، حين توصل إلى آلية مذهلة تفسّر بقاء البويضات البشرية حيّة وصالحة للتخصيب لعشرات السنين. هذه المرونة، التي تكمن في قلب علم الأحياء الإنجابي، تُشكّل واحدة من أكبر عجائب الطبيعة، إذ إن كل امرأة تولد بعدد من البويضات يتجاوز المليون، وتظل معظمها ساكنة بلا نشاط عقوداً طويلة. فما الذي يحمي هذه الخلايا من التلف والعطب وبالتالي يسمح لها بالاحتفاظ بقدرتها العجيبة كل تلك السنوات؟
توصلت أحدث الأبحاث إلى أن البويضات البشرية تتبنى استراتيجية “الحد الأدنى” أو الاقتصاد الشديد في الموارد، حيث تقمع نشاطها الداخلي إلى الحد الأدنى، وتبدأ دفاعاتها المناعية والخلوية بنظام يشبه وضعية السكون الفائق، ما يقلل بشكل كبير من الإجهاد التأكسدي والمركبات الضارة مثل الجذور الحرة. تخيّل البويضة هنا كأنها تدخل في سبات عميق، تتباطأ فيه عمليات “إعادة التدوير” الخلوي التي عادة ما تحدث عبر عضيات مثل اللايسوسومات والبروتيازومات؛ وهي أجزاء مسؤولة عن التخلص من البروتينات التالفة وتجديد المكونات الخلوية. هذه العملية مهمّة لبقاء الخلية، لكنها عادة ما تنتج عنها مركبات قد تتلف الحمض النووي. إذًا، من خلال تهدئة كل هذه النشاطات، تحفظ البويضة طاقتها وتحمي بنيتها الدقيقة فترة هائلة من الزمن.
ولتوضيح الصورة أكثر، أجرى الباحثون في مركز التنظيم الوراثي في برشلونة دراستهم على أكثر من مئة بويضة تبرعت بها سيدات شابات بين 19 و34 عامًا، حيث لاحظوا أن معدلات نشاط اللايسوسومات والبروتيازومات والميتوكوندريا داخل البويضات كانت أقل بنسبة 50% مقارنة بالخلايا المحيطة، بل وتتناقص تدريجيًا كلّما اقتربت البويضة من النضوج. ولفت الأنظار ما يحصل تحديدًا قبل الإباضة: إذ ترصد الباحثة “تنظيف ربيعي” حرفيًا، حيث تقوم البويضة بالتخلص من اللايسوسومات إلى السائل المحيط وتعيد توزيع بروتيناتها العضوية نحو الأطراف الخارجية. ويبدو أن هذا التحضير النهائي يوطد قدرتها على مواجهة عملية الإخصاب والتمكن من الانقسام السليم.
هذه النتائج تضع أمامنا منظورًا جديدًا في علاجات الخصوبة، لأن الطرق التقليدية كثيرًا ما تركز على تحفيز عمليات الأيض وزيادة الطاقة داخل البويضة عبر المكملات، ظنًا أن ذلك يحسّن جودتها. غير أن ما تكشفه هذه الدراسة هو أن المحافظة على السكون الطبيعي للبويضة قد تضمن جودة أعلى على المدى البعيد. وهذا يقود إلى إمكان تطوير بروتوكولات أحدث في التلقيح الصناعي (IVF) تواكب استعدادات البويضة الذكية والتي اكتسبتها بفعل التطور على مدى آلاف السنين، لتزيد فرص النجاح لدى ملايين السيدات حول العالم.
وتتضح أهمية الربط بين نتائج البحث الحديث وطموحات تحسين فرص الحمل للملايين من الأسر التي تلجأ لعلاجات الخصوبة، إذ يمكن أن تسهم إعادة التفكير باستراتيجيات التعامل مع البويضات في رفع معدلات النجاح بشكل غير مسبوق. ومن هنا يبرز الدور الحساس الذي تلعبه البنية الخلوية الصامتة في الدفاع الطبيعي عن مقدرة المرأة الإنجابية، مع إمكانية أن تنطبق مبادئ هذا “الحفظ الخلوي” على مجالات أخرى في الطب المرتبط بالتقدم في العمر وصحة الأنسجة الحيوية.
ومع استمرار البحث، يأمل العلماء في فك طلاسم الكيفية التي تتغير بها آليات “الاقتصاد الخلوي” للبويضات مع تقدم سن المرأة أو في حالات اضطرابات الخصوبة. فإذا تمكنا من تحديد التغييرات الدقيقة التي تطرأ على هذه العملية مع العمر، قد نتمكن من تطوير علاجات تقي من تدهور جودة البويضات، وبالتالي نُحدث ثورة في علاج تأخر الإنجاب. الدراسة التي نشرتها مجلة EMBO Journal تمثّل نقلة نوعية في فهمنا للخصوبة البشرية وطول عمر الخلايا.
مع ختام هذه الجولة داخل مختبر الخلية الأنثوية، ربما تأملنا كيف يمكن إدخال تحسينات بلمسة خفيفة على المفردات المستخدمة أو التركيز على إخراج جملة تربط بين اكتشاف اليوم وأمل الغد، أو ربما اختيار كلمة “آلية الاقتصاد الخلوي” بدلًا من “استراتيجية الحد الأدنى” لتوضيح المفهوم. الأهم أن هذا الاكتشاف يزرع بذور أمل لأسر كثيرة ويقرّبنا من فك ألغاز التقدم في العمر وصحة الخلايا ليس في الخصوبة فحسب، بل في كل جوانب الطب الوقائي والعلاجات التجديدية.