ذكاء اصطناعي

من أعماق البحار إلى أعمدة الشوارع: تجربة فرنسية رائدة لإنارة المدن بكائنات حية

محمد كمال
محمد كمال

4 د

تستخدم بلدة رامبوييه الفرنسية كائنات حية لتوفير إنارة شوارع مستدامة.

تقنية الإنارة البيولوجية تعتمد على "البيولومينيسنس" وتعزز علاقة الإنسان بالطبيعة.

تطلق شركة "غلووي" مشروعًا طموحًا بالتعاون مع السلطات المحلية لتجربة الإنارة الحيوية.

رغم التحديات التقنية، تُعتبر الإنارة الحيوية خطوة نحو تقليل البصمة الكربونية.

يُسعى لابتكارات جديدة تزيد شدة الضوء وتحسن قدرة الكائنات على التحمل.

قد تبدو لك الإنارة الصادرة عن أعمدة الشوارع في بلدة رامبوييه قرب باريس اعتيادية للوهلة الأولى، لكنها في الحقيقة تنبع من قوى لا تشبه أي مصدر ضوء نعرفه. ففي إحدى زوايا مركز التطعيم ضد كورونا في هذه المدينة الفرنسية الهادئة، تجذب الأنظار أنابيب زجاجية تصدر وهجًا أزرقاً هادئاً، مصدره ليس كهرباء الشبكة، بل كائنات بحرية ميكروبية أطلق عليها اسم "البكتيريا المتوهجة". هذه المشاهد باتت تلوّن أيضاً شوارع وحدائق البلدة، وتبشّر بتغيير عميق في فلسفة الإنارة داخل المدن والعلاقة مع الطبيعة.


هل تخيلت يوماً أن مصابيح المدينة يمكن أن تكون... كائنات حية؟

في تفاصيل التجربة، تعتمد تقنية الإنارة الحيوية على ظاهرة "البيولومينيسنس"، أي الضوء الطبيعي الناتج داخل أجسام الكائنات من تفاعل كيميائي، والذي نشاهده عادة في الأسماك العميقة، وأنواع من الفطر، واليراعات المشعة. قدر كبير من الكائنات في أعماق المحيطات تمتلك هذه القدرة، ويُعتقد أنها تطورت بشكل مستقل في الطبيعة عشرات المرات. فمن توهج الديدان المضيئة لجذب الأزواج، إلى طحالب تتلألأ حين تلمسها حركة الماء، شهدت الطبيعة تجليات آسرة لهذه الظاهرة، التي كان البشر لفترة طويلة يبتهجون فقط بمشاهدتها في البراري.

ويكتسب مشروع "غلووي" في رامبوييه شهرة متزايدة منذ أن تعاونت السلطة المحلية مع شركة ناشئة تحمل الاسم ذاته، من أجل اختبار قدرة الإنارة البيولوجية على نطاق حضري. في سياق هذه التجربة، توضع بكتيريا بحرية داخل أنابيب ماء مالح وتغذى بمغذيات بسيطة مع تدفق مستمر للأكسجين. وعندما تتوقف الأجهزة عن ضخ الهواء، ينحبس الضوء فورًا، مما يوفر إمكانية التحكم في الإنارة بطريقة طبيعية من دون كهرباء. لا يستهلك تشغيل هذه المصابيح "الحية" سوى القليل من الطاقة، فهي تتطلب غذاء للبكتيريا فحسب.

ومن هذه الزاوية، يربط العديد من الخبراء بين مبادرة رامبوييه وبين نقلة جذرية محتملة في علاقتنا بالكهرباء، والطاقة المتجددة، بل ومفهوم الاستدامة الأوسع.


الإنارة البيولوجية: خطوة نحو استدامة المدن وتقليل البصمة الكربونية

عند الحديث عن مستقبل المدن الخضراء، تبرز نقطة أساسية: أن الإنارة التقليدية، رغم تطور مصابيح الليد (LED) وانخفاض استهلاكها للطاقة مقارنة بالمصابيح القديمة، لازالت تعتمد بشكل رئيسي على كهرباء تولَّد في أغلبها بحرق الوقود الأحفوري. أما الإنارة البيولوجية، فهي متجددة تماماً، وقادرة على إعادة إنتاج نفسها باستمرار، وتعتمد على موارد بسيطة. أضف إلى أن عمليات إنتاج المصابيح الحيوية أقل تلويثًا من صناعة مصابيح الليد، فالمواد المستخدمة قابلة للتحلل، واستهلاك المياه والموارد الطبيعية فيها منخفض جداً.

ويأتي هذا الطموح مواكبًا لدعم تقني ومالي من هيئات بحثية أوروبية وجهات حكومية؛ فAgence ERDF المختصة بإدارة الشبكة الكهربائية الفرنسية، ودعم بملايين اليوروهات من المفوضية الأوروبية، وكل ذلك يعكس جدية هذا التحول.

مع ذلك، الارتباط بين التجربة اليومية والتطوير العلمي لا يزال يحمل في جوهره تحديات ليست بسيطة.

وهذا ما يقودنا إلى التحديات والمآخذ التي تُثار حول نجاح هذا النموذج على نطاق أوسع، خاصة بالمقارنة مع الإنارة الكهربائية التقليدية المألوفة للمجتمع الحديث.


تحديات الضوء الحي: شدة الإضاءة، الحاجة للرعاية، وأفق التطوير

رغم مزاياها البيئية، يواجه هذا النمط من الإنارة حواجز تقنية مهمة. من الطبيعي أن الإضاءة الطبيعية الناتجة عن البكتيريا المتوهجة ما زالت أضعف بكثير من المصابيح الكهربائية العادية. يحتاج الحفاظ على هذه الكائنات إلى تغذيتها المستمرة، وقد يؤثر اختلاف درجات الحرارة على قدرتها على التوهج، وخصوصاً في برد الشتاء. علماء مثل البروفيسور كارل جونسون يشيرون لهذه العقبات، ويرون أن صيانة النظام الحيوي واستدامته من التحديات الفعلية.

لكن ثمة ابتكارات واعدة في الأفق؛ ففريق "غلووي" يعمل على تقنيات لزيادة شدة الضوء وتحسين قدرة البكتيريا على التحمل، في حين توجه مختبرات أخرى حول العالم جهودها نحو إنارة نباتية متوهجة عبر الهندسة الوراثية، أو استخدام إنزيمات خاصة دون الحاجة لكائنات حية كاملة، ما يقربنا أكثر من مصابيح المستقبل المستدامة. وربط ذلك مع الخبرات العالمية، هناك شركات كندية تبتكر بديلاً مستدامًا "لعصا التوهج" المعروفة في الحفلات الموسيقية، لكنها تعتمد على إنزيمات قابلة للتحلل وليس مواد كيميائية مؤذية.

هذا كله يوضح أن المضي نحو إنارة مستدامة آلية معقدة، لكنها لا تفعل شيئاً سوى تعزيز بحث الإنسان الدؤوب عن الحلول الصديقة للبيئة.

ذو صلة

انطلاقًا من الإنجازات الحالية، تبرز أهمية الربط بين الاستدامة والتقنيات الحديثة، إذ يطل علينا أمل بمدن تجمع بين الحداثة واحترام الطبيعة في آن واحد. فإذا أضفنا إلى كل ما سبق التقدم في الهندسة الوراثية، حيث استطاع علماء روس مؤخرًا إنتاج نباتات متوهجة بقوة عشر أمثال التجارب القديمة، فإن المستقبل يبدو واعدًا بشكل خاص، وقد نرى يومًا شوارعنا مضاءة باللون الوردي المتوهج من أوراق النباتات!

في الختام، تبدو فكرة أن يتحول الضوء في شوارعنا وحدائقنا إلى نبض حي دليلًا على أن الابتكار لا حدود له، وأن الاستدامة ليست مجرد شعار بل واقع ينجز بوتيرة متسارعة. لو جرى تضييق زاوية التركيز على التحديات التقنية في فقرة مستقلة أو استبدلنا في المقدمة "قوى لا تشبه أي مصدر ضوء نعرفه" بعبارة "قوى بيولوجية تنبض بالحياة" لكان وقع البداية أكثر تشويقًا، كما أن إضافة جملة تربط بين الإنارة المستدامة وجودة حياة السكان قد تعزز إثراء الخاتمة وتحفز القارئ على التأمل في مستقبل المدن الذكية. فما بين عبقرية الكائنات الحية ورؤية الإنسان، قد نجد حقًّا مصادر الضوء الجديدة لعالم أكثر انسجامًا مع الطبيعة.

ذو صلة