ذكاء اصطناعي

من بين بقايا طفل عمره 11 عامًا… وُجد سرّ الإنسان الذي يتأخر في النضوج

محمد كمال
محمد كمال

3 د

اكتشاف بقايا بشرية في دمانيسي يغير فهمنا لنمو الطفولة في التاريخ الإنساني.

العلماء يستخدمون تصوير ثلاثي الأبعاد للأسنان لربطها بنمو الدماغ والطفولة الممتدة.

الطفولة الممتدة تُعتبر استراتيجية تطورية للتعلم الثقافي والمجتمعي عبر الأجيال.

بقاء أشخاص مسنين بدون أسنان يدل على التضامن الاجتماعي المبكر ورعاية الجماعة.

تعلم الصغار من الكبار ربما ساهم في تطور الأدمغة الأكبر وفترات النمو الأطول.

تتميّز الطفولة البشرية بطولها مقارنة ببقية الرئيسيات، إذ يحتاج الإنسان الصغير إلى سنوات من الرعاية والدعم العائلي قبل أن يصبح مستقلاً. لطالما اعتقد العلماء أن سبب هذا النمو البطيء هو حاجة الدماغ الكبير إلى طاقة ووقت للنضج، لكن اكتشافاً جديداً قد يعيد رسم هذه الصورة التقليدية.

العثور على بقايا بشر مبكر في موقع دمانيسي بجورجيا، تعود إلى حوالي 1.77 مليون سنة، أتاح للباحثين التعمّق في العلاقة بين طول فترة الطفولة ونمو القدرات الثقافية، ليقترحوا أن السبب لا يتعلق بالدماغ فقط، بل بالخبرة الاجتماعية أيضاً.

وهنا يبرز سؤال محوري: ما الذي يمكن أن تخبرنا به الأسنان عن مسار الطفولة الأولى في التاريخ الإنساني؟


الأسنان.. سجلّ محفوظ لنمو الإنسان


قاد فريق من جامعة زيورخ، بالتعاون مع مختبر الأشعة السنكروترونية الأوروبي (ESRF)، دراسة غير مسبوقة استخدم فيها العلماء تصويراً ثلاثي الأبعاد فائق الدقة لرصد البنية الدقيقة للأسنان الأحفورية، تماماً كما تُقرأ حلقات عمر الأشجار. ووفق العالم كريستوف تسوليكوفير، فإن “الأسنان تحفظ يوميات النمو بدقة مدهشة، ما يسمح بتتبّع تطوّر الطفل منذ الولادة حتى الوفاة”.

وهذا الربط بين بنية الأسنان ومعدل نمو الدماغ والجسم يفتح نافذة فريدة على طفولة أسلافنا؛ فكل شريحة مجهرية من المينا تحكي فصلاً من قصص التطور. ومن هذا المنطلق، انتقل الفريق إلى تحليل مؤشرات النمو الزمني في العينة.


اكتشاف يغيّر الفرضيات القديمة


أظهرت البيانات أن الطفل الذي دُرس توفي بين سن 11 و12 عاماً بعدما كانت ضروسه الأخيرة قد ظهرت بالفعل، وهو توقيت يقارب مرحلة البلوغ لدى القردة العليا. المفاجأة، كما يوضح بول تافورو من ESRF، أن نمو تاج الضرس كان أسرع من أي إنسان بدائي أو قرد عظيم معروف حتى اليوم. هذا النمط المزدوج — سرعة في بعض الأسنان وبطء في أخرى — يعكس استراتيجية تطور وسطى بين القرد والإنسان المعاصر.

ومع ذلك، فإن علامات الاعتماد الطويل على الكبار كانت واضحة: الأسنان اللبنية استُخدمت لفترة أطول، ما يعني أن الأطفال اعتمدوا على مساعدة البالغين في الغذاء والحماية لسنوات إضافية. وهذا يأخذنا إلى نواة النظرية الجديدة حول “الطفولة الممتدة” كميزة تطورية مستقلة.


مجتمع يرعى أفراده جيلاً بعد جيل


في الموقع ذاته، عُثر أيضاً على هيكل لفرد مسن فقد جميع أسنانه لكنه عاش سنوات بعدها، مما يشير إلى أن جماعته اعتنت به بتوفيره الغذاء والرعاية. يقول ديفيد لوردكيبادنزه من المتحف الوطني الجورجي: “بقاء هذا الفرد العجوز دليل على تضامن اجتماعي مبكر”. هذا الترابط بين الأجيال يُترجم إلى بيئة مثالية لنقل المهارات، من صنع الأدوات إلى جمع الغذاء وتنظيم المجموعات.

وهذا الربط بين التعاون الجماعي وطول فترة الطفولة يقود العلماء إلى احتمال أن التعلم الثقافي كان المحرك الأول لتطور الدماغ وليس العكس.


الطفولة نقطة انعطاف في مسيرة الإنسان


تشير الفرضية الجديدة إلى أن التأخير في النضج أتاح للصغار تعلّم سلوكيات أكثر من جيل الكبار، كما أتاح لمن يملكون الخبرة نقل معارفهم على مدى أطول. ومع تزايد المعلومات والمهارات المطلوب تمريرها، فضّلت الطبيعة الأفراد الذين يملكون أدمغة أكبر وفترة نمو أطول.

ذو صلة

وهكذا مهدت “الطفولة المديدة” الطريق لتكوين منظومات اجتماعية أكثر تعاوناً، ومن ثمّ لتطوّر الإنسان العاقل كما نعرفه اليوم.

خلاصة القول إن أسنان ذلك الطفل من دمانيسي لم تفصح فقط عن عمره عند الوفاة، بل كشفت أيضاً عن جذور إنسانيتنا الاجتماعية، وأن ما يميزنا ليس الدماغ وحده، بل قدرتنا على الرعاية والتعليم عبر الأجيال — وهي السمة التي ربما كانت المفتاح الأول لبداية الإنسانية الحقيقية.

ذو صلة