ذكاء اصطناعي

هل نحتاج فعلاً لكل مخنا؟ نصفه يكفي للحياة الطبيعية!

محمد كمال
محمد كمال

3 د

كشفت دراسة عن قدرة المخ على إعادة ترتيب نفسه بعد استئصال نصفه في الطفولة.

أظهرت الدراسة قوة الاتصالات العصبية في الجزء المتبقي من الدماغ بعد الجراحة.

تشير النتائج إلى مرونة عصبية كبيرة، وقدرة الدماغ على تعويض الفقدان الوظيفي.

تظل المهارات اللغوية والسلوكية للمشاركين سليمة رغم فقدان نصف الدماغ.

التكيف العصبي يفتح آفاقًا جديدة للعلاجات المستقبلية لأمراض وإصابات الدماغ.

تخيل أن يفقد الإنسان نصف دماغه في طفولته، ثم يكبر ليعيش حياته بقدرات فكرية ولغوية تقريبًا دون اختلاف عن الآخرين! هذا ما كشفته دراسة علمية مدهشة صدرت حديثًا، وأعادت تسليط الضوء على قدرة المخ البشرية الفريدة على التعافي وإعادة بناء نفسه بعد إصابات أو عمليات جراحية جسيمة، مثل استئصال نصف المخ بسبب نوبات الصرع الحادة.

الدراسة التي أجراها فريق من معهد كاليفورنيا للتقنية (كالتيك) تناولت ستة بالغين فقدوا نصف أدمغتهم جراحيًا في الطفولة لعلاج الصرع، وقارنتهم بمجموعة تحكم من نفس الفئة العمرية. المفاجأة الكبرى أن فحوصات الرنين المغناطيسي الوظيفي، التي ترصد نشاط الدماغ من خلال تدفق الدم، كشفت أن الجزء المتبقي من المخ كوَّن اتصالات قوية استثنائية بين دوائره العصبية، لصنع توازن أذهل العلماء وعكس فكرة وجود حدود صارمة لقدرة المخ على التكيف.

وهنا يبرز السؤال: كيف يعوض الدماغ ما فقده؟ تكمن الإجابة في ظاهرة الاكتفاء العصبي، إذ إن المناطق المسؤولة عن الحركة، البصر، المشاعر، وحتى التفكير المعقد، وفق مصطلحات الشبكات العصبية، أعادت توزيع أدوارها، وخلقتُ روابط جديدة بين المناطق المتبقية. وتفاجأ الباحثون بأن الاتصالات الشاملة بين هذه الدوائر كانت قوية أحيانًا أكثر من الأشخاص ذوي الدماغ الكامل. هذا يفتح بابًا لفهم “المرونة العصبية” عن قرب، ويعيد للأذهان قدرة الدماغ المذهلة على إعادة التنظيم بعيدًا عن التصورات التقليدية لطبيعته الجامدة.

ويُضيف الباحثون في الفريق أن هؤلاء المشاركين لديهم مهارات لغوية وسلوكية سليمة إلى حد كبير. في الواقع، في جلسات اختبار الرنين المغناطيسي، لم يلاحظ أحد اختلافًا كبيرًا عن مئات المتطوعين السابقين، إلا إذا رأى صورة التصوير بالرنين والتي تظهر نصف دماغ فقط، ليتبدد الانطباع السائد حول العجز الكامل بعد فقدان جزء من المخ.


الرنين المغناطيسي الوظيفي وعالم التواصل العصبي


كانت الأجهزة المستخدمة في الدراسة قادرة على رصد التغيرات الدقيقة لتدفق الدم المرتبط بالنشاط العصبي، ما سمح للفريق بمقارنة بيانات الأشخاص الذين أجروا استئصالًا لنصف الدماغ مع قاعدة بيانات ضخمة تضم نحو 1500 شخص عادي. هذا الربط أتاح للعلماء مراقبة الاختلاف في التشابك العصبي ومدى قوته بعد التدخل الجراحي الكبير. وهنا، تكمن المفاجأة بأن المخ ليس فقط يمكنه “العيش بنصفه”، بل يوظف كل خلية ومجرى عصبي لتعويض غياب النصف الآخر، مع الحفاظ على تناسق الوظائف والتفكير والاستجابة للمحفزات.

ومن هنا، تظهر أهمية توسيع نطاق البحث لفهم ديناميات الشفاء. فقد لاحظ العلماء أن سنّ الخضوع للجراحة يختلف بين المشاركين، فمنهم من أجرى العملية بعمر 3 أشهر، وآخرون عند 11 عامًا، وهو ما يُثري تحليل كيفية تكيف الدماغ مع الإصابة بحسب فترة النمو ونوع الإصابة العصبية.


فَهم أولويات العلاج العصبي وتوقعات الشفاء


رغم هذا الإعجاز العصبي، يلفت العلماء إلى أن هناك إصابات دماغية صغرى مثل الجلطات أو الحوادث أو الأورام، قد تسبب مضاعفات شديدة بعض الأحيان أكثر من فقدان نصف الدماغ مبكرًا. السر يكمن في آلية إعادة التنظيم الذاتي للشبكات العصبية، وهو موضوع بحث نشِط لدى المختصين اليوم. إذ يطمح هؤلاء إلى استكشاف السبل التي يمكن من خلالها تحفيز هذه القدرات الطبيعية، وربما تطوير تدخلات علاجية مستقبلًا لمساعدة المرضى الذين يعانون من إصابات أو أمراض دماغية مختلفة.

ذو صلة

وإضافة إلى ذلك، فإن فَرادة قدرة الدماغ على التكيف بهذه الطريقة تفتح آفاقًا لمقاربات علاجية تُبنى عليها برامج التأهيل العصبي الموجهة، ليست فقط لعلاج الصرع، بل للارتقاء بعلاج الأمراض الدماغية الأخرى كالخرف، إصابات الدماغ الرضحية، وحتى الاضطرابات التطورية.

هكذا نرى أن المخ البشري لا يكفّ عن إدهاشنا بقدراته على إعادة بناء نفسه عندما تتهيأ الظروف، ليعيد رسم وظائف الحركة، الحواس، المشاعر والإدراك في لوحة عصبية جديدة بالكامل. هذه الدراسات ترسخ مكانة المرونة العصبية كقلب عمليات الشفاء والتكيف، وتدفعنا لمراجعة كل الأفكار السابقة عن محدودية قدرات الدماغ والإصابة العصبية. فما كشفه العلماء اليوم هو مجرد نقطة في بحر “ذكاء” الدماغ الذي لا ينضب.

ذو صلة