هل نحن مسيرون أم مخيرون؟ كيف يتحكم الذكاء الاصطناعي بخياراتنا دون أن نشعر!

3 د
هل قراراتنا اليومية نابعة من إرادتنا الحرة أم متأثرة بالذكاء الاصطناعي؟ تجمع أنظمة الذكاء الاصطناعي البيانات وتعيد صياغة التجارب لتعظيم التفاعل.
تدير منصات كبرى أنظمة توصية تؤثر على الأذواق والاهتمامات بشكل غير مرئي.
يمكن للذكاء الاصطناعي تشكيل التفضيلات تدريجيًا دون أن ندرك التلاعب الخفي.
تهدد هذه الأنظمة قدرتنا على التفكير المستقل والاختيار الحر.
هل سبق أن فكرت فيما إذا كانت خياراتك اليومية هي حقًا نابعة من إرادتك الحرة؟ ماذا لو كانت هذه الاختيارات قد صُممت سرًا وبذكاء من قبل ذكاء اصطناعي، دون أن تدري؟ قد يبدو الأمر خياليًا أو مقتبسًا من إحدى أفلام الخيال العلمي، لكن الواقع الجديد بدأ يأخذ شكلًا خطيرًا، واقع تشكله الآلات بصمت من خلال التطبيقات والمحتوى والإعلانات لتوجيه اهتماماتنا دون أن نشعر.
تستطيع أنظمة الذكاء الاصطناعي جمع البيانات من تفاعلاتك الرقمية اليومية مثل نقراتك، ترددك، وحتى فترات صمتك في تصفح المحتوى. ثمّ تعيد صياغة تجربتك بطريقة تدفعك دومًا للبقاء أمام الشاشة، والتفاعل أكثر. والأدهى في ذلك أن هذه الأنظمة لا تهتم بالمحتوى الأصدق أو الأنفع بالنسبة لك، بل تركز فقط على إبقائك مرتبطًا بالخدمة لأطول مدة ممكنة.
وهذا ما يجعل المنصات الكبرى مثل تيك توك ويوتيوب وإنستغرام تدير أنظمة توصية محتوى فريدة من نوعها؛ فهي تمد المستخدمين بفيديوهات ومنشورات ومحتوى يناسب تفضيلاتهم المحددة بدقة. لكن، بدلًا من تقديم اقتراحات بريئة أو عشوائية، تحولت هذه الأنظمة إلى محركات نفسية ذكية تحاول توجيه الأذواق والاهتمامات، وتدفع المستخدمين فيما قد يناسب المعلن أو حتى توجهات سياسية واجتماعية خفية، وهذا يعني أنها لا تتوقف عند التعرف على ما يحب الشخص، بل تتعدى إلى محاولة تشكيل ما "سيحب".
وهذا يقودنا نحو حقيقة تجعلنا قلقين: فكلما ازدادت معرفة هذه الأنظمة بنا، أصبحنا أسهل في التنبؤ وأكثر عرضة للتأثير. افتح مثلًا تطبيق تيك توك لبضع دقائق فقط، وسترى مدى دقة البرنامج في اكتشاف حالتك النفسية أو مشاعرك من خلال محتوى سريع الاستجابة يلتمس ضعفك أو وحدتك أو قلقك، ليزيد من شعور مشابه بهدف إبقائك مرتبطًا بالمشاهدة لفترة أطول. وهو نفس النهج تقريبًا في موقع فيسبوك، الذي كثيرًا ما يعطي الأولوية للمحتوى الذي يثير الغضب أو يزيد من شعور الخوف وعدم الأمان لدى المستخدمين بطريقة غير واعية.
وعلى نحو مشابه، بدأت منصات أخرى تصمم قوائم استماع موسيقية تتضمن مقاطع من إنتاج ذكاء اصطناعي، لتختبر في صمت إذا ما كان المستخدم قادرًا على التفريق بين ما هو بشري وما هو آلي. الأمر لا يقتصر على مجرد الترفيه، بل يمتد لاستخدام الذكاء الاصطناعي في أمور التجارة وخدمة العملاء، حيث تحاول روبوتات الدردشة توجيه العميل بلطف نحو قرارات معينة، كشراء إضافي أو تقييم إيجابي فى النهاية.
بهذه القدرة الخفية التي تنشط في حياتنا اليومية، ينشأ تساؤل مهم: ماذا سيحدث حين يصبح القرار أو الاختيار البشري مجرد انعكاس صامت لإرادة نظام حاسوبي بلا مشاعر أو قيم؟ قد تكون الآلات غير واعية، لكنها جيدة بما يكفي لتؤثر علينا بصورة ذكية دون أن نلحظ، مستهدفة دوافع مثل الربح والتفاعل والتأثير والترويج. وهنا يصبح مفهوم الإرادة الحرة والاختيار الذاتي يكون مهددًا بطريقة غير مرئية.
لا تكمن الخطورة في سيناريوهات خيالية مثل سيطرة الروبوتات على البشر، بل في فقدان تدريجي لاستقلاليتنا واختياراتنا من خلال إقناعنا بأننا أصحاب القرار بينما الحقيقة أننا نتعرض لتلاعب مستمر لا نشعر به. فالذكاء الاصطناعي لا يحتاج إلى فرض قراراته بعنف، لأن سر قوته يكمن في التأثير الخفي، الذي يعيد تشكيل التفضيلات والمعتقدات بهدوء ودون مقاومة تذكر.
الأمر لا يتعلق بمجرد خصوصية البيانات أو المراقبة، بل بمفهوم الحرية والإرادة الواعية. لذلك علينا أن نتعامل بحذر أكبر ووعي بما نتعرض له من محتوى ونقاشات عبر منصات التواصل والتطبيقات التي ترافقنا بشكل يومي. فالتحدي الآن ليس في أنظمة واعية تهدد العالم، وإنما في نظام يهدد شيئًا لا يقل أهمية، وهو قدرتنا على التفكير المستقل والاختيار الحر دون توجيه خفي من آلة صامتة تتعلم منا أكثر كل يوم.
وفي النهاية، ربما علينا أن نطرح الأسئلة الصعبة ونسعى لوضع حدود واضحة تجاه هذه الأنظمة الذكية، بهدف حماية الإنسان ووعيه الذاتي. قد يكون الاعتدال في الاستخدام وتحسين الوعي المعرفي والرقمي عبر التعليم ونشر الثقافة التقنية من بين الخطوات الفعالة لتصحيح هذه المسارات، حتى تظل اختياراتنا تعكس حقًا إرادتنا الحرة وليست مجرد صدى محسوب مسبقًا لما ترغب به الأنظمة الآلية.