هل يمكن لزراعة الأعضاء أن تغير شخصية الإنسان؟

4 د
هل يمكن أن تؤثر زراعة الأعضاء على شخصيتنا وسلوكنا؟ أمراً يثير اهتمام الجراحين والنفسيين.
كلير سيلفيا عانت من تغيرات غير متوقعة بعد زراعة قلب ورئة.
تجارب متعددة تشير إلى انتقال بعض سمات المتبرع النفسية للمستقبل.
هناك فرضيات جديدة حول تخزين الذاكرة في أجزاء أخرى غير الدماغ.
هذه الدراسات تساهم في تحسين فهم وتحسين حياة المتلقين للأعضاء.
تخيل أنك تستيقظ من عملية زرع قلب أو رئة، لتكتشف أن رغباتك، وتفضيلاتك وحتى تصرفاتك اليومية، لم تعد كما كانت. هل يمكن أن ينتقل جزء من شخصية المتبرع إلى جسدك مع العضو الذي حصلت عليه؟ هذا السؤال الغريب أصبح حديثا متزايدا بين جراحي الأعضاء ونفسييهم، خاصة مع تزايد شهادات المرضى حول تغيرات نفسية وحسية عصية على التفسير.
في عامها الخامس والأربعين، تصف كلير سيلفيا رحلتها المذهلة مع مرض ارتفاع الضغط الرئوي الأولي النادر. بعد سنوات من صراع صعب مع التعب والاختناق، أخبرها أطباؤها أن لا علاج فعلي لحالتها سوى زراعة قلب ورئة، لتصبح أول مريضة تخضع لهذه الجراحة في نيو إنغلاند. بدا وكأن كل شيء تغير بعد تلقيها الزرع: خلال مقابلة صحفية وجدت نفسها تفاجئ الجميع قائلة: "أرغب فعلاً في شرب الجعة حالاً" — رغم أنها قط لم تفضلها على الإطلاق. وتوالت المفاجآت؛ فقد أصبحت تعشق الفلفل الأخضر وتفضله في كل أكلاتها، ووجدت نفسها تذهب لمطاعم الوجبات السريعة لأول مرة لتناول قطع الدجاج المقلية! لم تقف الأمور هنا، بل لاحظت أيضاً تحولات في مشاعرها وثقتها بنفسها وأسلوب تعاملها مع من حولها.
وتوصِلنا هذه القصة إلى مسألة قد تبدو بعيدة عن العلم للوهلة الأولى: هل يحمل العضو المنقول من المتبرع بصمة نفسية أو عصبية، تنتقل مع الدم والأنسجة إلى جسد المستفيد؟
شهادات مذهلة وحالات دراسية جديدة
لم تكن تجربة كلير الوحيدة من نوعها. طبيب الأعصاب النفسي بول بيرسال نشر عام 2000 حالات مماثلة لعشرة أشخاص خضعوا لزراعة قلوب، جميعهم لاحظوا تغييرات جوهرية حاولوا تفسيرها على ضوء حياة المتبرعين لهم. تراوحت تلك التحولات بين تفضيلات جديدة في الطعام والموسيقى، وحتى تحولات في الاهتمامات والهوايات. في إحدى الحالات، وصف طفل عمره خمس سنوات تلقى قلباً جديداً من طفل آخر، أنه أصبح يشعر بذكريات وأحاسيس لا تخصه، بل خصت المتبرع. الغريب أن عائلة الطفل لاحقاً اكتشفت فعلاً أن “تيمي” - كما لقبه المستفيد - كان هو نفسه اسم المتبرع الحقيقي، وأن حادث وفاته ارتبط بلعبة كان الطفلان يحبانها.
هذا التواتر في القصص بدأ يجذب اهتمام الباحثين. أظهر آخر استطلاع طبي حديث أن 89% من متلقي الأعضاء تحدّثوا عن تغيرات نفسية ولو بسيطة بعد زراعتهم، من دون أن يكون لها تفسير فيزيولوجي مباشر واضح.
ومن هنا يثار سؤال كبير في سياق الدماغ والذاكرة: لطالما اعتقد العلماء أن جميع الذكريات والعادات محفوظة في خلايا الدماغ فقط. فما الذي يجعل زرع القلب أو الكبد أو الرئة سبباً في تبدل هام في الذاكرة أو السلوك أو حتى الإحساس؟
وأمام هذا الجدل الدائر، بدأ العلم الحديث يفكر في احتمالات جديدة كانت تُعتبر خيالاً حتى وقت قريب.
الذاكرة خارج الدماغ: فرضيات غير تقليدية
البحوث الجديدة في عالم الأعصاب والمناعة تطرح فكرة أن أجزاء من الذاكرة قد “تُخزن” على هيئة شيفرات أو بصمات في DNA أو RNA أو البروتينات أو حتى في تفاعلات جينية "فوق وراثية" (إبيجينيتيكية) داخل خلايا الجسم، وليس في الدماغ وحده. فإذا انتقلت هذه الخلايا مع عضو جديد إلى جسد المستفيد، ربما تحمل معها أجزاء دقيقة من “خبرات” المتبرع أو سماته الشخصية.
وهذه الفرضية وإن لم تحصل بعد على إثبات قاطع، تفتح باباً مثيراً أمام الطب العصبي لفهم أعمق لطبيعة الذاكرة البشرية وكيفية تداخلها بين خلايا وأعضاء متعددة.
ولأننا وصلنا لمرحلة تزداد فيها عمليات نقل الأعضاء كل عام، تزداد معها أهمية طرح أسئلة مثل: هل الذاكرة أكثر من مجرد تفاعل كهربي في المخ؟ وهل الشخصية خليط من شبكة عصبية معقدة وشيفرة جينية مخفية، تنتقل من جسد لآخر مع الأعضاء المزروعة؟
أبحاث المستقبل... وأمل المتلقين الجدد
هذه الاستكشافات ليست مجرد طرفة علمية، بل لها جانب إنساني كبير: فهم هذه التبدلات النفسية يمكن أن يساعد آلاف الأشخاص في التأقلم مع حياتهم الجديدة بعد الزرع، ويحسّن علاقتهم بأجسادهم وبالهوية الجديدة التي تطرأ عليهم تدريجياً.
من الواضح أننا ما زلنا نمتلك القليل فقط من أسرار تأثير نقل الأعضاء على السلوك والتفكير والمشاعر؛ ويتفق المتخصصون اليوم أن مزيداً من الدراسات المنهجية ضروري لتحديد مدى واقعية انتقال خصائص “شخصية” مع النسيج العضوي، وما هي الآليات الدقيقة وراء ذلك.
وفي الختام، يبدو أن قصص مثل قصة كلير سيلفيا وغيرها تكسر الحاجز التقليدي بين ما هو بيولوجي وما هو نفسي، وتجعلنا نتأمل في علاقة الجسد بالذات. وحدها الأبحاث المستقبلية ستكشف لنا إذا كان “تغيير القلب” قد يعني أحياناً – حرفياً – تغيير الشخصية أيضاً.
السؤال يبقى مطروحاً: ما الذي سنكتشفه عن النفس البشرية إذا منحنا أعضاءنا حياة ثانية؟









