وحيد، مظلم، ويشق طريقه بصمت… أول ثقب أسود تائه يرصد في قلب مجرتنا

3 د
علماء الفلك يرصدون أول ثقب أسود منفرد في قلب مجرتنا باستخدام "العدسة الثقالية الدقيقة".
تقدر كتلة الثقب الأسود بحوالي سبعة أضعاف كتلة شمسنا، بدون مرافقة نجمية.
حدث "OGLE-2011-BLG-0462" أصبح الدليل على وجوده، مستمرًا لأكثر من 270 يومًا.
القياسات أكدت أن الجسم لا يمكن أن يكون سوى ثقب أسود نجمي الكتلة.
الاكتشاف يشير إلى وجود ملايين الثقوب السوداء المنعزلة المحتمل وجودها بمجرتنا.
تخيل للحظة أن هناك ثقبًا أسود هائلاً، يتحرك بمفرده في ظلام الفضاء دون رفيق نجمي يرافقه، صامتًا وغير مرئي، وكأنه شبح كوني يتجول داخل مجرة درب التبانة. قد يبدو هذا وكأنه جزء من فيلم خيال علمي، لكنه في الحقيقة اكتشاف علمي مذهل أعلنت عنه مؤخرًا فرق من علماء الفلك يقودهم الباحث كايلاش ساهو من معهد علوم تلسكوب الفضاء.
كيف تم اكتشاف هذا العملاق الخفي؟
يتواجد هذا الثقب الأسود المنعزل في اتجاه كوكبة القوس، ويقدر العلماء كتلته بحوالي سبعة أضعاف كتلة شمسنا. الغريب في هذا الثقب أنه لا يلتهم مادة من نجم قريب، وليس له مرافق من أي نوع، وهو ما من شأنه عادةً إظهاره من خلال انبعاث أشعة إكس، أو اضطرابات جاذبية في نظام نجمي. إذن، كيف استطاع العلماء رصده رغم أنه فعليًا "غير مرئي" في ظلمة الكون؟
الإجابة تكمن في ظاهرة كونية نادرة تسمى "العدسة الثقالية الدقيقة" (gravitational microlensing)، وهي ظاهرة تنبأ بها ألبرت آينشتاين في إطار نظريته للنسبية العامة. باختصار، عندما يمر جسم ذو كتلة كبيرة مثل ثقب أسود أمام نجم بعيد، فإنه يستخدم جاذبيته الشديدة كعدسة تكبر ضوء ذلك النجم مؤقتًا، وتغير موقعه في السماء بشكل طفيف لكنه قابل للقياس.
حالة نادرة وطويلة الأمد: حدث عدسة الثقب الأسود
بدأ الكشف عن هذه الظاهرة في عام 2011، من خلال حدث أطلق عليه العلماء اسم "OGLE-2011-BLG-0462"، حيث استمر تأثير العدسة الثقالية هذا لأكثر من 270 يومًا، وهو ما منح الباحثين فرصة طويلة ومثالية لجمع البيانات اللازمة من مراصد فضائية متطورة مثل تلسكوب هابل الفضائي ومرصد غايا.
ورغم أن فريق ساهو رصد هذا الحدث مبكرًا، إلا أن الجدل استمر سنوات عديدة حول الطبيعة الدقيقة لهذا الجسم الغامض. فريق بحثي ثانٍ اقترح في البداية أن الجسم قد يكون نجمًا نيوترونيًا، لكن مع الوقت، ومع توفر بيانات رصد أكثر دقة من هابل ومنظمة غايا، أصبح من الواضح أن الجسم لابد وأن يكون كثيفًا بشكل شديد ولا يمكن أن يكون سوى ثقب أسود.
حل اختلاف الرأي بين فريقين من العلماء
وفقًا للقياسات الحالية، حدد فريق ساهو كتلة هذا الجسم بحوالي 7.1 مرات كتلة الشمس، في حين قدر الفريق الثاني كتلة أقل بقليل، حوالي 5.8 مرات كتلة الشمس. لكن حتى عند هذه القيمة الأقل، فهذا الجسم يبقى أكبر بكثير من أي نجم نيوتروني معروف، إذ أن الحد الأقصى النظري لكتلة نجم نيوتروني يتراوح بين 2.1 إلى 2.5 مرات فقط كتلة الشمس. وهكذا، فإن النتيجة المتفق عليها بين الفريقين هي أن هذا الجسم الفلكي يحطم الشكوك ويعلن نفسه كثقب أسود منفرد وبكل ثقة ووضوح.
آفاق علمية جديدة: ماذا بعد هذا الاكتشاف؟
يعد هذا الاكتشاف الرائع أول تأكيد علمي واضح لثقب أسود نجمي الكتلة لا يتبع أي نجم أو نظام نجمي، ما يجعل العلماء يستنتجون أن مثل هذه "الفراغات السوداء" كثيرة، وربما يصل عددها إلى ملايين الثقوب السوداء "المنعزلة" التي تتجول دون أن تُرصد في أرجاء مجرتنا.
ومن هنا يبدو المستقبل العلمي مثيرًا للغاية، خصوصًا مع اقتراب إطلاق "تلسكوب نانسي غريس رومان"، المخطط له عام 2027. هذا التلسكوب الجديد سيكون مزودًا بتكنولوجيا متقدمة جدًا تسمح له برصد أحداث العدسات الثقالية الدقيقة بكفاءة وبتفاصيل أدق من السابق، ما يتيح المجال واسعًا لاكتشاف المزيد من هذه الثقوب السوداء المنفردة، وفهم طبيعتها وأعدادها وحركتها.
أبواب جديدة لكشف أسرار الكون
هذا الاكتشاف العلمي المثير الذي نُشر في مجلة The Astrophysical Journal لا يمثل فقط أهمية في حد ذاته، بل يهيئ الأرضية لفهم أفضل للكون وظواهره الغامضة، ويساعد العلماء على رسم صورة أوضح حول تكوين الثقوب السوداء وآلية تحركها. وقد يفتح الباب لتساؤلات أعمق: هل هناك ثقوب سوداء "مارقة"، وما تأثيرها الخفي على بنية الكون؟
يبقى هذا الكشف برهانًا عمليًا على أننا ما زلنا في بداية الطريق نحو فهم أوسع وأشمل لكوننا الشاسع بكل غموضه وأسراره. ويبدو واضحًا الآن أن الكون يخفي لنا العديد من المفاجآت في أعماق الظلام الفضائي، وما هذه إلا البداية فقط.