ورشة سريّة داخل الخلية: كيف ينقذ الحمض النووي نفسه من الأخطاء القاتلة؟

3 د
اكتشفت الخلايا آلية احتياطية لإصلاح أعطال الحمض النووي المعقدة.
تواجه الخلايا تحديات في نسخ 3 مليارات زوج قاعدي في سبع ساعات.
الآليات الاحتياطية تعمل عند فشل نظم الإصلاح العادية في المناطق المعقدة.
تستخدم الخلايا "ملصق شحن" لتوجيه الخيوط المتضررة إلى مناطق إصلاح متخصصة.
البحث يفتح آفاقًا لعلاج الأورام السرطانية باستهداف آليات الإصلاح الجينية.
تخيل أن جسدك يضم مليارات الخلايا، وكل خلية تحمل في نواتها موسوعة هائلة من التعليمات الوراثية تدعى الشيفرة الوراثية أو الـ DNA. لكن هل فكرت يومًا كيف تنجح الخلية في نسخ هذه المعلومات بدقة، رغم عملية النسخ السريعة والخطرة التي تشبه سباقًا مع الزمن؟ في الواقع، يواجه النظام الوراثي تحديات ضخمة في كل لحظة، وقد كشفت دراسة علمية جديدة أن الخلايا تملك بالفعل “خطة ب” – أو صندوق أدوات إضافي – لمواجهة أصعب أعطال الحمض النووي، خصوصًا تلك التي تتعلق بمناطق متكررة ومعقدة قد تعرقل سير عملية تصحيح الأخطاء الروتينية.
في كل مرة تنقسم الخلية لنقل محتواها من المعلومات الوراثية، تجد نفسها مضطرة لنسخ نحو ثلاثة مليارات زوج قاعدي موزعة في خيوط الـ DNA خلال سبع ساعات فقط؛ ما يُعادل عملًا أشبه بنسخ 120 ألف زوج قاعدي في الثانية! هنا يتخيل المرء حجم الأخطاء الممكنة، والواقع أنها بالفعل تقع، بمعدل خطأين تقريبًا كل ثانية. لكن لا تقلق، فهناك إنزيمات مدهشة تتدخل فورًا كفريق إسعاف طارئ لإصلاح الخلل بنفس السرعة تقريبًا. هذه الوظيفة الدقيقة تعرف بالترميم الجيني، ويعتمد الجسم فيها على بروتينات متخصصة في إعادة تصحيح أي اختلال أو طفرة ناشئة أثناء التكاثر الخلوي.
ومع ذلك، تظهر المشكلة عندما تصطدم عملية النسخ بعقبة أصعب وأكثر تعقيدًا، مثل فراغ أو انقطاع في خيوط الـ DNA، خصوصًا في مناطق تتكون من تسلسلات متكررة كـ CAGCAGCAG أو ATATATAT، إذ تصبح الخيوط معرّضة للالتواء أو التشابك مثل سلك كهربائي متعكر، مولدة أشكالًا ثانوية مثل الحلقات أو ما يُسمى البنى الصليبّية. هنا، وحسب أبحاث البروفسورة كاثرين فرويدنريتش من جامعة تافتس، تتوقف أنظمة الإصلاح العادية أحيانًا عن العمل بكفاءة، ما قد يؤدي لخطر فقدان بيانات وراثية مهمة أو حتى نشوء أمراض جينية وخلايا سرطانية إذا تُركت دون علاج.
ولضمان عدم ترك هذه العيوب الخطيرة بلا إصلاح، تبيّن أن لدى الخلايا حلًا احتياطيًا. ففي الحالات العسيرة، يظهر جيل ثانٍ من بروتينات الترميم يتدخل، حيث يلجأ الـ DNA التالف لآلية ذكية ترشده إلى منطقة معينة على أطراف نواة الخلية تُشبه بالورشة المتخصصة للصيانة الدقيقة. اكتشف الفريق العلمي أن الخيط المتضرر يُعلَّم “بملصق شحن”، ذلك بإضافة مجموعة فوسفاتية لبروتين إشاري، ما يسمح بفك ارتباط الكروموسوم المصاب عن ما يشبه الحبل المثبت في نواة الخلية. ثم تقود “مسارات” من البروتينات تُعرف بالأنابيب الدقيقة (الميكروتيوبولات) الخيط المصاب نحو حافة النواة، حيث تُنجز عمليات الإصلاح بتخصص أكبر.
آفاق جديدة لعلاج السرطان
هذه النقطة تفتح بابًا مهمًا للأبحاث المستقبلية، خاصة لعلاج الأورام. فالخلايا السرطانية تعتمد بشكل مبالغ فيه على نظم إصلاح الـ DNA لتستمر بالانقسام السريع، ما يجعل نقاط ضعف هذه الآليات فرصة لاستهداف الخلايا المريضة بذكاء من خلال تعطيل الخيارات الاحتياطية التي تحتاجها للبقاء.
من هنا نرى كيف تتداخل هندسة الحياة مع تفاصيل وراثية دقيقة، حيث تعمل أنظمة الإصلاح الجيني التقليدي، وآليات الترميم الطارئة، وبروتينات التوصيل والإشارة، لمنع تدهور المعلومات الوراثية وحماية الاستقرار الجيني. هذا الربط يؤكد أننا كلما تعمّقنا في فهم استراتيجيات الخلية، زادت فرصنا في تطوير علاجات فعالة لأمراض معقدة وفتحنا الأفق أمام تقنيات حيوية واعدة.
وبنظرة ختامية، يظهر أنه لو ركّزنا أكثر على توضيح مفهوم “القسم الخارجي للنواة” كمنطقة إصلاح متخصصة أو استبدلنا كلمة “ملصق شحن” بعبارة أوضح كـ “علامة إصلاح كيميائية”، سنسهّل ربط الأحداث التقنية للقارئ غير المتخصص ونعمّق فهمه لديناميكية ترميم الحمض النووي ضمن أنسجتنا. تذكّر دائمًا أن وراء كل عملية خلوية عادية، منظومة أمان احتياطية تجعل من بقاء الحياة أمرًا ممكنًا رغم الأخطاء الطبيعية المتكررة.