الأرض تكشف ماضيها المحظور… من قلب ينابيع اليابان!

3 د
كشفت ينابيع اليابان الحارة عن بيئة تشبه بدايات الأرض قبل مليارات السنين.
درس الباحثون مجتمعات ميكروبية تعايشت مع مستويات منخفضة من الأكسجين وحمض الحديد.
تهيمن البكتيريا المؤكسدة للحديد في المواقع، مما يعكس أقدم أشكال التمثيل الغذائي.
تشير "الدورة الكبريتية الخفية" إلى استراتيجيات ميكروبية للبقاء مع ندرة الموارد.
هذه النتائج تفتح الباب لدراسة الحياة في بيئات فضائية شبيهة مثل المريخ.
في مشهد يجمع بين الجمال الطبيعي واللغز العلمي، تحولت الينابيع الحارة الغنية بالحديد في اليابان إلى نافذة استثنائية على بدايات الحياة على كوكبنا. هنا، وبين فقاعات البخار والمياه المتدفقة، وجد العلماء بيئة تحمل سمات شديدة الشبه بتلك التي عاشتها الأرض قبل أكثر من ملياري عام، حينما كانت الميكروبات هي الأبطال الوحيدون على مسرح الحياة.
من خلال هذه الينابيع استطاع فريق بحثي من معهد علوم الحياة والأرض (ELSI) في طوكيو دراسة مجتمعات ميكروبية تتعايش مع مستويات منخفضة من الأكسجين وكميات عالية من الحديد. وهذا بالضبط ما كان يحدث خلال ما يُعرف بـ "الحدث التأكسدي العظيم"، حين بدأ الأكسجين يتسرب تدريجياً إلى الغلاف الجوي ليقلب موازين الحياة.
وهذا يربط بين بيئة اليابان الحالية والتحولات الجذرية التي شهدتها الأرض قبل 2.3 مليار سنة.
دروس من الحدث التأكسدي العظيم
قبل ظهور النباتات والحيوانات، لم يكن الأكسجين سوى مادة غريبة وربما مهددة للحياة السائدة آنذاك. الكائنات الضوئية الدقيقة، مثل البكتيريا الزرقاء، بدأت إنتاج الأكسجين عبر عملية التمثيل الضوئي، مما أدى إلى تحوّل كيميائي ضخم في الغلاف الجوي. بالنسبة للكائنات التي كانت تعتمد على بيئة خالية من الأكسجين، كان ذلك بمثابة كارثة وجودية. ومع ذلك، لم تنقرض الميكروبات جميعها؛ البعض تكيف وتحوّل ليستثمر هذا الغاز الجديد في طرق مبتكرة للبقاء.
هذا يعيد الصلة مباشرة بين التاريخ السحيق ونتائج التجارب الحديثة التي تجرى في ينابيع اليابان، حيث تتكرر الظروف ذاتها.
بكتيريا الحديد: بقاء بالتكيّف
اكتشف الباحثون أن مجموعات من البكتيريا التي تتغذى على الحديد هيمنت في معظم المواقع المدروسة. هذه الكائنات تعرف باسم البكتيريا المؤكسِدة للحديد، وهي قادرة على العمل في بيئات فقيرة بالأكسجين وغنية بالحديد الثنائي. وجودها اليوم يعكس أقدم أشكال التمثيل الغذائي التي ربما وُجدت على الأرض. في المقابل، ظهرت البكتيريا الزرقاء بنسب ضعيفة ولكنها قائمة، وكأنها تذكير بأن الصراع والتعايش بين منتجي الأكسجين ومستهلكيه بدأ في تلك العصور الغابرة.
وهذه الملاحظة تربط مباشرة بين قدرة الميكروبات القديمة على التحمل وبين احتمالات دراسة الحياة في بيئات مشابهة على كواكب أخرى.
دورة كبريتية خفية
المفاجأة الأكثر إثارة جاءت حين لاحظ العلماء دلائل على وجود دورة كبريتية جزئية في هذه الينابيع، رغم ندرة المركبات الكبريتية فيها. أطلق الباحثون على ذلك اسم "الدورة الكبريتية الخفية"، وهي مؤشر على أن الميكروبات تستطيع ابتكار استراتيجيات معقدة للبقاء حتى في غياب الموارد الوفيرة. هذا الاكتشاف قد يفتح الباب أمام فهم مسارات أيضية مجهولة ساعدت الحياة الأولى على تخطي العقبات القاسية.
ومن هنا تتضح العلاقة بين هذه النتائج والدراسات المستقبلية حول إمكانية وجود حياة في بيئات فضائية مثل المريخ أو أقمار المشتري الجليدية.
لمحة نحو الكون
يصف العلماء هذه الينابيع بأنها "مختبر طبيعي" لفهم الماضي القديم، لكنها أيضاً أداة تنبؤية تخبرنا بما يمكن أن يحدث خارج حدود الأرض. فإذا استطاعت الميكروبات أن تتأقلم مع بيئات متقلبة وأجواء سامة قبل مليارات السنين، فلا يُستبعد أن نجد أشكالاً مشابهة من الحياة مختبئة في أماكن بعيدة من مجرتنا.
الخلاصة
ما كشفه الباحثون في ينابيع اليابان الحارة ليس مجرد دراسة جيولوجية محلية، بل هو فصل جديد من رواية الأرض الطويلة مع الحياة والقدرة على التكيّف. بين الحديد والأكسجين والكبريت، تتقاطع خيوط الماضي مع أسئلة المستقبل: كيف بدأت الحياة على الأرض؟ وهل يمكن أن تتكرر قصتها في مكان آخر من الكون؟