الجرافين يفاجئ العلماء: إلكترونات تتحرك كسائل مثالي بلا مقاومة

3 د
أظهر الغرافين سلوك إلكترونات كسائل عديم الاحتكاك، مخالفًا لقواعد فيزيائية طويلة.
يعمل الغرافين كنظام "سائل ديراك"، حيث تندمج الإلكترونات بشكل جماعي.
يؤدي هذا السلوك الجديد إلى فهم أفضل للسوائل الكونية مثل بلازما الكوارك-غلوون.
يقدم الغرافين بتصرفاته الفريدة إمكانيات جديدة لأجهزة الاستشعار الكمومية المتقدمة.
في رحلة البحث الدائمة عن أسرار عالم الكم، ظهر مؤخراً اكتشاف علمي غير مسبوق يفك جزءاً من لغز حير الفيزيائيين لعقود طويلة. يتعلق هذا الاكتشاف بمادة الغرافين، وهي صفيحة رقيقة للغاية مكونة من ذرات الكربون مرتبة في شكل خلية نحل. لكن المفاجأة لم تكن في بنية الغرافين المدهشة فحسب، بل في طريقة تصرف الإلكترونات داخله، حيث أظهرت أنها تتدفق كسائل بلا احتكاك تقريباً، متجاوزة بذلك قواعد دراسية ظلت راسخة في الفيزياء لعشرات السنين.
عندما أجرى باحثون من معهد العلوم الهندي بالتعاون مع المعهد الوطني لعلوم المواد في اليابان تجاربهم على عينات شديدة النقاء من الغرافين، لاحظوا سلوكاً لم يكن متوقعاً على الإطلاق. فبدلاً من أن تكون قابلية المادة لنقل الكهرباء والحرارة متناسبتين بشكل مباشر، كما ينص ما يسمى بقانون فيدمان-فرانتس المعروف في عالم الفلزات، وجدا أن العلاقة بينهما أصبحت معكوسة تماماً: كلما زادت القدرة على توصيل الكهرباء، تراجعت قابليتها لتوصيل الحرارة، والعكس صحيح. الأمر الأكثر إدهاشاً أن هذا الاختلال وصل إلى حد يفوق مئتي ضعف عن القيم المتوقعة نظرياً عند درجات حرارة منخفضة للغاية، ما دل على أن الإلكترونات بدأت بالفعل تتصرف بطريقة جماعية تشبه تدفق السوائل وليس كجسيمات منفصلة كالمعتاد.
وهذا يقودنا للتعامل مع مفهوم جديد في عالم الحالة الصلبة، ألا وهو ما يسمى بـ "سائل ديراك" (Dirac fluid). في هذه الحالة الغريبة، يتوقف الإلكترون عن التقدّم بشكل فردي، بل يندمج مع الملايين من أقرانه ليشكّل تدفقاً مشابهاً للماء، ولكن بلزوجة شبه معدومة، أي أنه أقرب للسائل المثالي. العلماء لاحظوا أن هذه الحالة تظهر بشكل خاص عندما يكون عدد الإلكترونات مضبوطاً بدقة عند ما يعرف بنقطة ديراك، وهي حالة حرجة تجعل الغرافين لا معدني ولا عازل تماماً. يمكن تخيل الأمر كأنك تقف على الحد الفاصل بين عالمين فيزيائيين مختلفين.
ومن هنا تتفرع أهمية الاكتشاف بشكل أكبر: فقد وجد الباحثون أن نقل الشحنة ونقل الحرارة أصبحا يعتمدان على ثابت كوني لا يتغير من مادة لأخرى، يُعرف بالكمية الكوانتية للتوصيل. هذه النتيجة غير المسبوقة تُقرّبنا أكثر من فهم سلوك السوائل الكونيّة الشهيرة، مثل بلازما الكوارك-غلوون التي تدرس عادة في مسرعات الجسيمات الضخمة كـ "سيرن". كذلك، أوضحت التجارب أن سائل ديراك في الغرافين يمتلك أقل لزوجة ممكنة فيزيائياً، ما يجعله بيئة مثالية لدراسة مفاهيم من الفيزياء الفلكية ونظرية الثقوب السوداء حتى على طاولة معمل عادية.
وبالعودة إلى صلب الموضوع، تبرز إمكانات هائلة لهذا السلوك الطريف عملياً، خاصة في مجال أجهزة الاستشعار الكمية المستقبلية. الغرافين بسوائله الإلكترونية الفريدة قد يمهد الطريق لتطوير حساسات بإمكانها التقاط أضعف الإشارات الكهربائية أو حتى رصد أضعف المجالات المغناطيسية، وهو ما يفتح الباب أمام ثورة جديدة في تقنيات الاتصالات والحوسبة الكمومية.
وهكذا، يكشف لنا الغرافين من جديد مفاتيح مدهشة لفهم طبيعة المادة عندما تجتمع النقاء البنيوي والدقة الكمية والابتكار في التجربة، ليبقى هذا المركب العجيب مختبراً مصغراً لعجائب الكون وغرائب القوانين التي لا تزال تخبئ الكثير من الأسرار للعلماء والمبدعين.