ذكاء اصطناعي

اللحظة الأولى… أصل الحياة على الأرض لم يعد سراً بعد الآن!

محمد كمال
محمد كمال

4 د

بدأت دراسة علمية جديدة في كشف أسرار البروتينات الأولى على الأرض.

استطاع الفريق من جامعة كوليدج لندن التوصل إلى تفاعلات الحمض الأميني مع RNA بسهولة.

يحدث الارتباط بدون حاجة لإنزيمات معقدة، في بيئة مائية بسيطة.

الاكتشاف يسهم في فهم نشوء الحياة عبر كيمياء ما قبل الحيوية.

يدعم البحث فرضية تطوّر نشوء الحياة من تفاعلات بسيطة ومؤثرات طبيعية.

أثار نشوء الحياة على كوكبنا فضول العلماء لعقود طويلة، خاصة عندما يتعلق الأمر بكيفية تشكّل أولى البروتينات، وهي اللبنات الأساسية لأي كائن حي. فما هي الخطوة الأولى التي جعلت المواد الكيميائية الجامدة تتحول إلى بروتينات قادرة على إحياء الخلايا؟ دراسة علمية جديدة ظهرت مؤخرًا تحمل مفاجآت قد تقرّبنا كثيرًا من الإجابة عن هذا اللغز العلمي الكبير.

في قلب هذا الاكتشاف وقفت جامعة كوليدج لندن بفريقها الذي يرأسه البروفيسور ماثيو باونر، حيث يعمل المختبر على فك أسرار الكيمياء التي سبقت الكون الحي، المعروفة باسم “الكيمياء ما قبل الحيوية”. اعتمد الفريق في بحثهم على فكرة أساسية: لخلق الحياة، من الضروري التقاء الأحماض الأمينية (وهي وحدات بناء البروتين) مع جزيئات تسمى الحمض النووي الريبوزي (RNA)، وهي المسؤولة عن نقل وحفظ المعلومات الوراثية، وحتى المشاركة في بعض التفاعلات الكيميائية.

وهنا تتفرع تفاصيل القصة الجديدة، إذ كان الاعتقاد السائد سابقًا أن ربط الأحماض الأمينية إلى الـRNA كان يتطلب وجود إنزيمات معقدة، وهي جزء من البروتينات التي لم تكن موجودة أصلاً عند بداية الحياة. المفاجأة أن الفريق العلمي أثبت أن هذا الارتباط قد يحدث بطريقة بسيطة ومباشرة في الماء، وبدون حاجة لأي إنزيمات. ويعتمد الأمر كله على تحويل الحمض الأميني إلى شكل نشِط يحمل طاقة إضافية (يدعى الثيوإستر)، ليسهل ارتباطه مع RNA في نقطة محددة من الجزيء.


لماذا يعتبر هذا الاكتشاف خطوة ثورية؟


يأتي هذا السؤال في وسط الاهتمام بأصل الحياة، لأن هذه الخطوة تشرح كيف استطاع الحمض النووي الريبوزي أن يبدأ التعامل مع الأحماض الأمينية دون تدخل من البروتينات أو الإنزيمات، أي قبل أن توجد آليات الحياة الحالية. ما يجعله مهمًا أيضًا أن هذا التفاعل كان موجهًا إلى طرف شريط الـRNA مزدوج السلسلة، ما يقلل من حدوث أخطاء كيميائية أو تداخل عشوائي في الرسالة الجينية.

وهذا الربط بين الكيمياء البسيطة في الماء وتشكيل اللبنات الأولى للبروتين يُعد نقطة تحول في أبحاث الأصول، إذ أصبحت لدينا الآن “جسر كيميائي” محتمل بين الحركة الحيوية للمعلومات الجينية والتفاعلات الأيضية التي تغذي الحياة. تشير النتائج إلى أن استخدام مركبات الكبريت (الثيولات والثيوإسترات)، المتواجدة حتى اليوم في الاستقلاب الخلوي، كان حاضرًا في المحيطات الضحلة أو البرك الصغيرة منذ بدايات الأرض، مؤدية إلى تحفيز الروابط البروتينية في بيئة مائية معتدلة الحموضة.

عندما يتضح أن هذا التفاعل يمكن أن ينشط في وجود الثيوإسترات والماء دون حرارة أو ضغط شديدين، يصبح من السهل تصور مثل هذه العمليات في بحيرات أو شواطئ مبكرة حيث تتراكز المواد العضوية بفعل التبخر أو ذوبان الجليد. وهذا يعزز فرضية أن نشوء الحياة ربما لم يحتج لبيئات متطرفة بل لعمليات بسيطة وزمن كاف.


حلم الشيفرة الجينية: هل يُمكن لرابط RNA-الأحماض الأمينية أن يقود لنشوء "الكود" الوراثي؟


الخطوة التالية التي يقترحها الباحثون هي أن تفضيل ارتباط الأحماض الأمينية في أطراف الـRNA، تحت سيطرة التوزيع المزدوج، ربّما وضع حجر الأساس لما سيصبح مع الوقت "الشيفرة الجينية" التي تتحكم اليوم في طريقة بناء البروتينات من الرسائل الوراثية. بعبارة أخرى، الانتقائية في ربط جزيئات RNA بالأحماض الأمينية كان يمكن أن تتطور مع مرور الزمن لتصبح نظامًا مشفّرًا يتحكم في تتابع الببتيدات (سلاسل قصيرة من الأحماض الأمينية) في البداية، ثم البروتينات المعقدة لاحقًا.

السيطرة على هذا الارتباط وبدء تكوين سلاسل قصيرة من الببتيدات ــ كما تُظهر الدراسة ــ دليل عملي أن RNA لم يكن ينقل الرسائل فقط، بل بدأ أيضًا بعملية البناء بنفسه، موفّرًا خطوة أساسية في الرحلة نحو أول خلية حية على الأرض.

ذو صلة

إذا ربطنا هذا بالطفرة التطورية التي جاءت مع ظهور الريبوسوم ــ تلك الآلة الجزيئية العجيبة التي تقرأ الـRNA لبناء البروتينات في خلايانا اليوم ــ نجد أنفسنا أمام تصور منطقي لكيف سافرت الحياة من كيمياء البرك الصغيرة إلى عالم الأحياء المتعدد.

في النهاية، يقدم البحث المنشور في مجلة Nature دليلًا عمليًا وقويًا على أن الحياة ربما انطلقت حقًّا من الماء السائل، معتمدة على أبسط تفاعلات الكبريت والكربون والنيتروجين، من خلال اتحاد الجزيئات الوراثية مع اللبنات البروتينية الأولى. إذا استمر هذا النهج، فقد نقترب أكثر من رسم خريطة كاملة تبدأ من الذرات وتصل إلى الحياة الراقية التي نعرفها اليوم.

ذو صلة