ذكاء اصطناعي

النوم في السماء… السر الخفي وراء تحليق الطيور أيّاماً بلا توقف

محمد كمال
محمد كمال

4 د

كشفت دراسة جديدة أن بعض الطيور تستطيع النوم أثناء الطيران باستخدام جزء من دماغها.

تُسجل أجهزة مصغرة نشاط الدماغ وحركة الرأس والجسم وتحدد الموقع والارتفاع.

يظهر النوم في الطيران بمعدل قصير لا يتجاوز 0.

7 ساعة يومياً فقط.

عيون الطير المقابلة للنصف المستيقظ تظل مفتوحة مراقبة للبيئة.

الطيور تتكيف عصبيًا لتحمل نقص النوم دون تأثير على وظائفها الحيوية.

هل سبق وسألت نفسك: كيف تبقى بعض الطيور محلّقة في السماء أياما متواصلة دون أن تهبط للأرض حتى للنوم؟ لطالما حار العلماء في حل هذا اللغز، خاصة مع أنواع مثل طائر الفرقاط العظيم، الذي يجوب المحيطات بأسابيع من التحليق المستمر دون أن يلمس الماء. مؤخرا، كشف فريق من الباحثين سرّ هذه القدرة الاستثنائية، ليكتشفوا أن بعض الطيور قادرة بالفعل على النوم وسط الطيران، وبطرق مدهشة لا تشبه ما نعرفه لدى البشر أو حتى معظم الحيوانات.

عبر دراسة دقيقة جمعت بين أجهزة تتبع متناهية الدقة وقياسات مباشرة لنشاط الدماغ (تخطيط المخ الكهربي - EEG)، توصل العلماء إلى أن طيور الفرقاط تستطيع النوم باستخدام جزء من دماغها فقط بينما تظل حاسة البصر واليقظة نشطة في النصف الآخر. وهذا ما يعرف بالنوم أحادي النصف الكروي، وهي آلية تسمح للطير أن يغلق عينه اليمنى مثلا وينام نصف دماغه المقابل، فيما يبقى النصف الثاني مستيقظا يدير دفة الطيران ويراقب الأخطار أو الأغذية في البيئة المحيطة. ومن هنا يبدو لنا جليا كيف يُمكن للطائر مواصلة التحليق في رحلات الهجرة الطويلة دون توقف فعلي للراحة.

وهنا تتداخل التقنيات مع فهمنا لسلوك الطيور. فقد قام الباحثون بتزويد طيور الفرقاط بأجهزة تصغيرية تسجل كل من أنماط الموجات الدماغية وحركة الرأس والجسم وتحدد الموقع والارتفاع عن سطح البحر باستخدام منظومات GPS. الأرقام أظهرت أن الطائر ينام فعليا في الجو، لكن بمعدل قصير جداً لا يتجاوز 0.7 ساعة يومياً، أي أقل من عُشر ساعات النوم ذاته على اليابسة، ما يؤكد أن النوم في الجو أكثر اختزالا وتقطعاً وأضعف عمقاً مقارنة بالنوم عند الاستراحة على الأرض.


النوم في الجو... كيف يحدث؟


لفهم هذه الآلية الغريبة، تخيل أن دماغ الطائر أشبه بجهازين يعملان جنبًا إلى جنب، حيث يستطيع إطفاء واحدهما مؤقتًا ليأخذ قسطًا من الراحة، بينما الآخر يبقى متيقظاً لقيادة الحركة والتوازن وتجنب المفترسات الطبيعية أو العوائق البيئية. خلال النوم أحادي الدماغ (Unihemispheric slow-wave sleep)، نجد أن عين الطير المقابلة للنصف المستيقظ تبقى مفتوحة، متوجهة نحو اتجاه الطيران لمواصلة مراقبة الطريق. عند الحاجة، ينتقل الطائر بين النوم في نصف دماغه فقط، وأحيانًا يحظى برفاهية غفوة شاملة في كلا النصفين لكن لفترات مركزة وقصيرة جدًا. وهذه القدرة ليست مقتصرة على الطيور فحسب؛ إذ نجدها بنسب متفاوتة لدى بعض الثدييات البحرية مثل الدلافين.

وبالعودة لمجموعات الطيور المهاجرة أو القاطنة للمحيطات مثل السويفت والسنونو وبعض أنواع الزقزاق وطيور البحر الأخرى، نجد أن كثيراً منها يعتمد على رحلات طويلة وغير منقطعة قد تستغرق أياما أو أسابيع، وهي تتجاوز بذلك التحديات المرتبطة بنقص النوم عن طريق هذه الحلول البيولوجية المتطورة.

وهنا يبرز سؤال آخر: هل تؤثر قلة النوم هذه على إدراك الطائر أو قدرته على الطيران السليم؟ المفاجئ أن الأبحاث أظهرت قدرة الفرقاط على الحفاظ على الانتباه والأداء الحركي والقدرة على اتخاذ القرارات بسرعة رغم قلة فترات النوم، ويبدو أن الطيور قامت بتكييف آلياتها العصبية لتحمّل هذا الحرمان المؤقت دون أن تتأثر وظائفها الحيوية الملحّة. وهذا يفتح باب التساؤل حول الفوائد غير المتوقعة للغفوات القصيرة أو "القيلولات الصغرى" حتى لدى البشر.


ارتباط النوم بطبيعة البيئة والرحلات الطويلة


المثير أن أنماط النوم لدى الطيور تختلف بحسب الظروف البيئية. فخلال الطيران فوق البحار، يكون الطائر أكثر عرضة للرياح، أو حركة القطعان، أو البحث عن مصادر الطعام، لذا فإن النوم أثناء التحليق يكون حذراً وسطحياً للغاية، يوازن بين ضرورة الراحة ومواصلة التركيز الدائم. وعند الهبوط أخيراً على اليابسة، يحدث تعويض سريع على شكل نوم أعمق وأطول وربما أكثر غنى بأحلام النوم السريع (REM). كل ذلك يجعل النوم عند الطيور نظاماً مرناً ومتحوراً إلى درجة مدهشة.

ذو صلة

وما يجعل الإنجاز العلمي أكثر أهمية، هو استخدام الباحثين أجهزة صغيرة تجمع إشارات الدماغ وتراقب سلوك الطيران دون إعاقة حركة الطائر، وتُمكن من تحليل لحظات التحليق، التوقف، وحتى توجيه الرأس والجناحين خلال مختلف مراحل النوم والاستيقاظ.

خلاصة القول، لم يعد النوم ميزة حصرية للراحة فوق الأغصان أو أعشاش اليابسة، بل أصبح سِراً من أسرار المرونة العصبية للطيور المهاجرة وفصلاً جديداً في فهمنا لطبيعة النوم نفسها. فمن خلال النوم بنصف الدماغ، وبتنسيق بديع بين الحذر والراحة، تواصل الطيور التحليق لمسافات وأسفار تخطف الأنفاس، محافظة على توازنها في عالم من العواصف والتحديات — لنتعلم مرة أخرى أن الطبيعة لا تتوقف عن إدهاشنا بحلولها الفريدة.

ذو صلة