ذئب يعود للحياة بعد 44 ألف عام… هل يبدأ كابوس الانقراض العكسي؟

4 د
عُثر على ذئب سيبيري كامل تحت جليد العصر الجليدي عمره 44 ألف سنة.
التجمّد والبرمافروست حالا دون تحلل جثة الذئب لتبقى محفوظة جيدًا.
يُدرس الذئب لتحليل نظامه الغذائي وبيئته القديمة بالتقنيات الدقيقة.
قد تنبه ذوبان الجليد على أمراض قديمة، مما يثير قلق العلماء.
الذئب يبث إضاءات على تاريخ الحيوانات المفترسة وعلاقتها بالعصر الجليدي.
تخيل أن تسير على ضفاف أحد الأنهار المتجمدة في سيبيريا، وفجأة تلمح جثة ذئب كامل وكأنها خرجت للتو من سبات عميق. هذا ليس مشهداً من فيلم خيال علمي، بل حقيقة مذهلة كشفت عنها اكتشاف علمي حديث عام 2021، حين عثر السكان المحليون على ذئب متجمد محفوظ بشكل شبه كامل تحت طبقات الجليد، عاش في نهاية العصر الجليدي قبل أكثر من 44 ألف سنة. هذه اللقطة النادرة أشعلت فضول العلماء حول العالم وأثارت تساؤلات عديدة حول حياة آكلات اللحوم الكبيرة، وكيف غيّر التجمّد معالمها عبر الزمان.
في قلب الاكتشاف، أجرى فريق علمي بقيادة ألبرت بروتوبوبوف من أكاديمية علوم ياكوتيا، فحصاً تشريحياً دقيقاً على الذئب في متحف الماموث الشهير بمدينة ياكوتسك. وعوضاً عن البقايا المتحجرة أو العظام التي يعثر عليها عادةً، وجد الباحثون ذئباً محافظاً على جلده وفرائه وحتى أعضائه الداخلية! من هنا تبدأ القصة، حيث يحاول العلماء الاستفادة من هذا الكنز الطبيعي النادر لفك الشيفرات البيولوجية والنظام البيئي الذي عاش فيه هذا الكائن المفترس، وكل ما يحمله من أدلة جينية وتاريخية دفنها الزمن بقسوة الجليد.
كيف صمدت جثة الذئب لآلاف السنين؟
الانتقال من اندهاشنا بنُدرة البقايا إلى رحلة اكتشاف سر بقاء الذئب كل هذا الوقت، يبدأ بقوانين الطبيعة نفسها. إذ عملت درجات الحرارة المنخفضة في التربة الدائمة التجمّد – المعروفة باسم البرمافروست – كزر "إيقاف مؤقت" لعمليات التحلّل. أضف إلى ذلك الجفاف الحاد الذي يصاحب هذه المناطق، حيث يفقد النسيج الرطوبة ويصعب على الميكروبات التفكك، ومن ثم يستمر الحمض النووي والبروتينات محفوظة بشكل مذهل. الأبحاث الحديثة توضح أيضاً دور نقص الأكسجين القاسي تحت الجليد في الحد من نشاط البكتيريا، مما يسهم في إبقاء الجثث سليمة لآلاف السنوات. لذا، يجمع هذا الذئب بين جميع العناصر التي تجعل من محافظته حدثاً فريداً في دراسة العصر الجليدي والمومياوات.
وهذا يسلط الضوء على أهميته الفريدة في فهم دورة حياة الحيوانات المفترسة، خاصة وأن معظم الاكتشافات السابقة كانت تقتصر على الحيوانات العاشبة التي تدفنها المستنقعات ويبتلعها الجليد بسرعة.
بدراسة معدة وأمعاء الذئب وأنسجته الداخلية بتقنيات دقيقة داخل غرف معقمة، يأمل العلماء أن يعيدوا تركيب حميته الغذائية وبيئته الأصلية. مقارنة نظائر العظام والعضلات مع فرائس معروفة من تلك الحقبة تتيح رسم صورة عن المناطق التي كان يصطاد فيها الذئب، ونوعية الوجبات التي كانت توفر له الطاقة على مرّ الفصول القاسية. كما أن تتبع الطفيليات، آثار الجروح الملتئمة والعلامات على العظام تكشف عن صراعات البقاء ومعارك السيطرة على أراضي الصيد خلال العصر الجليدي الأخير.
بل ويذهب الباحثون أبعد من ذلك، ليحللوا الجراثيم والكائنات الحية الدقيقة المحفوظة في جهازه الهضمي. فهذه الميكروبات القديمة قد تحمل أدلة حول الأمراض التي تهدد الثدييات قبل آلاف السنين. وهناك تخوف علمي اليوم من أن ذوبان طبقة الجليد مع الاحتباس الحراري قد يوقظ جراثيم و"فيروسات عملاقة" خاملة منذ عصور، وهو ما أظهرته بالفعل تجارب مختبرية في السنوات الأخيرة.
استكمالاً لهذا المنظور البيئي المترابط، يعمل الفريق العلمي على استخراج المادة الوراثية (الجينوم) من الذئب ومقارنتها بجينات الذئاب القديمة والمعاصرة لرسم خريطة النسب وتطور الصفات الفريدة مثل شكل الجمجمة أو قدرة الهضم. وكشفت تحليلات شاملة لجينات الذئب القديمة مؤخراً عن روابط وثيقة بين ذئاب أوراسيا الشرقية وكلابنا الأليفة الحالية، مؤكدين امتداد هذه الشجرة العائلية لآلاف الأعوام.
لكن ما يجعل هذا الاكتشاف استثنائياً هو أنه نادراً ما تصلنا الحيوانات المفترسة بحالة شبه كاملة، وغالباً ما نعثر على أجزاء مثل جماجم أو أطراف منفصلة، لذا فإن جثة الذئب السيبيري تكمل صورة الغذاء المتداخلة في عصور الجليد، وتسد ثغرات كثيرة عن مفتَرِسات الشمال وطرائدها.
للمقارنة، سبق أن اكتُشِف جرو ذئب محفوظ من عصر الجليد في منطقة يوكون بكندا عمره 57 ألف عام، وقد أعطانا هذا النموذج قياسات دقيقة عن النظام الغذائي ونمو المراهقين من عائلة الكلاب في تلك الفترة. فحص الذئب السيبيري يسعى للوصول إلى نفس المستوى من التفاصيل وربما أبعد، معتمداً على تحاليل دقيقة تبدأ بالتصوير الطبقي ثم عينات ميكروسكوبية من الشعر والجلد وأخيراً التحليل الجيني والمجهري للمحتوى المعوي.
وبالاستفادة من تسلسل الحمض النووي والأبحاث الميكروبية، يمكن بناء صورة شبه كاملة لنمط افتراس الذئب، فهل كان يصطاد الماموث أم يتغذى على الجيف؟ كيف أثّر عليه الشتاء الطويل؟ بإجابات هذه الأسئلة، قد نقرأ عنفوان الحياة البرية وكأنها تعود مجدداً من العصور الغابرة.
تحديات المستقبل: هل يحمل الذوبان أسراراً خطيرة؟
رغم متعة الاكتشاف، يثير تعرّض طبقات الجليد القديمة للذوبان، مع ارتفاع درجات الحرارة العالمية، قلقاً جدياً من إعادة إحياء أمراض منقرضة أو نشاط جراثيم عتيقة مثل الجمرة الخبيثة. الدراسات الربط بين موجات الدفء وانبعاث مسببات الأمراض في مناطق القطب الشمالي والهضاب الروسية، جعلت وكالات الصحة حول العالم في حالة تأهب وراقب الظواهر عن كثب.
ومن هنا، يأتي هذا الاكتشاف كتذكير بقدرة الأرض على الاحتفاظ بأسرارها حتى في أعمق طبقاتها التجمدية، وفي نفس الوقت يدق ناقوس الحذر من مغامرة لا يمكن التنبؤ بكل سيناريوهاتها، حين يبدأ الجليد في التسرب ويطلق ما دفنه منذ آلاف السنين.
بذلك، تُعيد جثة الذئب السيبيري رسم ملامح العصر الجليدي على خريطة العلم الحديث، وتقدم إجابات مشوقة على أسئلة علاقة الإنسان بالحيوان، تطور السلاسل الغذائية، وأخطار الحقبة الجديدة من الاحتباس الحراري. يبدو أن رحلتنا مع الذئب العائد من الماضي لم تكتمل بعد، فما زالت عينات أنسجته وجيناته تحمل مفاتيح لأسرار ستكشفها المختبرات في الأعوام المقبلة.