وداعاً للإنفلونزا وكورونا؟ السر في جين خطير مخفي داخل أجساد البعض!

3 د
يكشف بحث حديث عن طفرة نادرة تمنح مناعة قوية ضد الفيروسات.
تمكن العلماء من نسخ تأثير الطفرة عبر علاج mRNA تجريبي.
يسعى الفريق العلمي لنقل هذا "الاستجابة المناعية الخفيفة" لأي شخص.
يفتح العلاج آفاقًا جديدة للوقاية العاجلة في حالات الأوبئة.
التقنية تمنح حماية واسعة الطيف ضد الفيروسات دون تأثير دائم.
هل تخيلت يوماً أن يعيش بعض الناس في صمت وهم محصّنون فعلياً ضد جميع الفيروسات؟ هذه ليست قصة خيال علمي، فقد كشف بحث حديث أن هناك طفرة وراثية نادرة لدى عدد محدود من البشر تجعلهم بالفعل مقاومين بشكل شبه كامل للأمراض الفيروسية مثل الإنفلونزا وكوفيد-19. ليس هذا فحسب، بل تمكن العلماء من نسخ تأثير هذه الطفرة عبر علاج mRNA تجريبي فتح نافذة الأمل أمام تطوير مضاد فيروسات عالمي قد يغيّر قواعد اللعبة في المستقبل.
من سر خلل نادر إلى سلاح فيروسي قوي
القصة بدأت منذ قرابة 15 عاماً، حين لاحظ الدكتور دوسان بوغونوفيتش، أستاذ علم المناعة بجامعة كولومبيا، أن مجموعة صغيرة جداً من الناس حول العالم مصابون باضطراب مناعي يُسمى "عوز ISG15" (أي نقص بروتين منظّم للمناعة اسمه ISG15). المثير أن هؤلاء الأشخاص أظهروا استعداداً متزايداً للعدوى البكتيرية، لكن في المقابل لم يعانوا قط من أمراض فيروسية مثل الحصبة أو الجدري أو الإنفلونزا. مبدئياً، أثار الأمر استغراب الباحثين، لكن لاحقاً لاحظوا سمة فريدة: التهابات جسدية خفيفة لكن دائمة تشبه إلى حد بعيد استجابة الجسم ضد الفيروسات، مما قد يفسر الصمود الاستثنائي أمام كل أنواع الفيروسات تقريباً.
وهذا التحول غير المتوقع في مسار البحث جعل الفريق العلمي يتساءل: ماذا لو استطعنا نقل هذه "الاستجابة المناعية الخفيفة" لأي شخص بشكل آمن ومرحلي؟
تجربة علمية تفتح آفاق العلاج الوقائي
ظلت هذه التساؤلات نظرية حتى استطاع فريق بوغونوفيتش ابتكار علاج تجريبي بتقنية الحمض الريبي المرسال (mRNA)، يشبه مفهوم لقاحات كوفيد، لكنه مصمم خصيصاً لمحاكاة آلية الحماية الفريدة لدى المصابين بعوز ISG15. وعندما جُرّب العلاج على فئران وهامستر، تبيّن أنه قادر على تعطيل وتوقيف تضاعف فيروسات مثل الإنفلونزا وكورونا في الرئتين، مع تقليل شدة الأعراض بشكل ملحوظ.
والربط هنا يعود لفكرة الاستفادة من الضغط المناعي الخفيف؛ إذ ركز العلاج على تحفيز إنتاج عشرة بروتينات رئيسية فقط (بدلاً من أكثر من ستين بروتيناً في الحالات الطبيعية)، بغرض الحصول على مناعة شاملة مؤقتة بحد أدنى من الالتهابات.
تعطيل الفيروسات من دون فرض مناعة دائمة
من اللافت في هذه الدراسة أن التقنية صُممت كي تكون الاستجابة المناعية مؤقتة وذات تأثير محدود زمنياً، وليست دائمة مثل بعض اللقاحات. بهذه الطريقة، يحصل الجسم على حماية فورية وواسعة الطيف ضد الفيروسات، دون التأثير في قدرته على بناء ذاكرة مناعية حقيقية، ما يتيح للأشخاص تكوين مناعة طويلة الأمد إذا ما أصيبوا فعلياً لاحقاً بأي فيروس.
لكن كباقي الابتكارات البيولوجية الحديثة، لا تزال هناك تحديات تقنية؛ فمثلاً، يحاول الفريق تحسين مستويات وصول الجزيئات العلاجية إلى الرئة وضمان كفاءة امتصاصها في الخلايا المستهدفة، كما يجري اختبار مدة بقاء التأثير الوقائي والتي تُقدّر حالياً بثلاثة إلى أربعة أيام فقط.
آفاق جديدة للطب الوقائي في مواجهة الجوائح
هذا العمل البحثي يمهد الطريق نحو ابتكار علاج مضاد للفيروسات يمكن الاستفادة منه بشكل عاجل وسريع في حالات تفشي الأوبئة الجديدة، حيث يمكن للأطقم الطبية والأشخاص الأكثر عرضة للخطر حماية أنفسهم فوراً حتى قبل تحديد هوية الفيروس. ومن أهم ما يميّز هذه التقنية، حسب بوغونوفيتش، أنها قد تمنح مناعة مؤقتة ضد أي فيروس معروف أو مجهول، من دون تعطيل قدرة الجسم على التعلم المناعي أو حدوث التهابات خطيرة.
وباختصار، يكشف هذا الاكتشاف كيف أن الفضول العلمي ونظرة الباحثين خارج القوالب التقليدية يمكن أن تفتح آفاقاً هائلة، وربما تضع العالم أمام فصل جديد في معركة الإنسان مع الفيروسات، من الإنفلونزا مروراً بكورونا ووصولاً إلى فيروسات المستقبل المجهولة.
هكذا، يظل العلم قادراً على تحويل حتى أشد الاضطرابات النادرة إلى طاقة شفاء وأمل، وينسج من أبحاث الجينات والحمض النووي والدراسات السريرية قوة مناعية جديدة ربما تدفعنا يوماً للقول: المرض توقف هنا بالفعل!