ذكاء اصطناعي

جينات لا نراها، لكنها تدافع عنا… هندسة إلهية في بكتيريا الفم

محمد كمال
محمد كمال

3 د

اكتشف علماء حلقات ضخمة من الحمض النووي في بكتيريا الفم قد تحمي من السرطان.

تسمى هذه الحلقات "إينوكليز" وتعتبر عناصر وراثية منفصلة تعزز تكيف البكتيريا.

تقنية "preNuc" تساعد في اكتشاف هذه الحلقات العملاقة التي لا تكشفها الأدوات التقليدية.

العلاقة بين "إينوكليز" والوقاية من السرطان تشير إلى دورها في تعزيز حصانة الجسم.

تخيل أن في أفواهنا أسراراً بيولوجية لم تُكشف بالكامل إلى اليوم—فقد توصل علماء إلى اكتشاف حلقات ضخمة من الحمض النووي يحملها نوع معين من البكتيريا الفموية، ويرجح أنها يمكن أن تكون خط الدفاع المجهول ضد بعض أنواع السرطان. هذه الحلقات، التي أُطلق عليها اسم "إينوكليز"، تُعد شكلاً جديداً وعملاقاً من العناصر الوراثية المنقولة بين الجراثيم والمعروفة باسم البلازميدات، لكنها مختلفة هذه المرة في الحجم والدور.

ما الذي يجعل هذا الاكتشاف مهماً؟ ببساطة، لأن "إينوكليز" عبارة عن دوائر أو حلقات من جزيئات وراثية منفصلة عن الحمض النووي الأصلي للبكتيريا، وتعمل هي الأخرى كدليل إرشادي إضافي للبكتيريا، تساعدها على التكيّف مع بيئة الفم المعقدة والمليئة بالتحديات. الباحثون من جامعة طوكيو يقولون إن هذه الحلقات الضخمة تمنح البكتيريا–وخاصة بكتيريا الستريبتوكوكوس المنتشرة في الفم–قدرة عالية على مواجهة الضغوط البيئية داخل الفم، تماماً كحصول الكائن الحي على حقيبة نجاة إضافية.

ولإلقاء الضوء أكثر على كيفية اكتشاف هذه الحلقات الضخمة، لابد أن نتوقف عند المفارقة التي ذكرها الفريق العلمي. بسبب ضخامة حجم "إينوكليز"، لم تكن الأدوات التقليدية تستطيع الكشف عنها سابقاً. إذ أن تقنيات تسلسل الحمض النووي، والتي تشبه قليلاً عملية تقطيع كتاب إلى صفحات صغيرة لإعادة قراءته، تواجه صعوبة في تجميع الحلقات العملاقة. لذلك، ابتكر العلماء منهجية خاصة أطلقوا عليها "preNuc"، تتيح انتقاء الحمض النووي البشري من العينة، وتركيز النظر فقط على المادة الوراثية البكتيرية. هذا التقدم سمح لهم بالتعرف بدقة على تركيب "إينوكليز"، الذي يبلغ متوسط تسلسله الوراثي أكثر من 350 ألف زوج قاعدي (وحدة بناء الجينات)، ما يجعله أضخم من أغلب البلازميدات المعروفة في الأحياء الدقيقة.

من هنا ننتقل لأحد الجوانب الأكثر إثارة في الدراسة: العلاقة المحتملة بين "إينوكليز" وبين الوقاية من السرطان. فقد وجد الباحثون، بعد دراسة عينات لعاب من مئات المتطوعين، أن الأشخاص المصابين بسرطان الرأس والعنق لديهم أعداد أقل بكثير من هذه الحلقات في أفواههم مقارنة بغيرهم. ورغم أن العلماء يلتزمون الحذر في إعلان أن وجود "إينوكليز" يقي بالفعل من السرطان، إلا أنهم يؤكدون ارتباطه الواضح بالحصانة ضد بعض المخاطر الصحية كالسرطان، وربما أمراض الفم المزمنة أيضاً. وهذا يدفعهم للتساؤل: هل يكون وجود هذه الدوائر الوراثية نوعاً من الحماية الطبيعية أم أن غيابها علامة على ضعف بيولوجي لدى بعض الأشخاص؟

بهذه النتائج، يتحمس فريق الجامعة اليابانية إلى النظر ملياً في الوظائف الدقيقة لجينات "إينوكليز". أحد الإشارات الهامة أن هذه الجينات تمنح البكتيريا قدرة عالية على مقاومة الإجهاد التأكسدي، وتصحيح أعطال الحمض النووي، وتقوية جدار الخلية، وجميعها وظائف حيوية جداً في البكتيريا الموجودة في بيئة الفم المتغيرة. إضافة إلى ذلك، يسعى الفريق لمعرفة إن كان يمكن لهذه الحلقات أن تنتقل بين الأشخاص أم لا، وما إذا كان وجودها أو غيابها مطلوباً للحفاظ على التوازن الصحي في الفم، وربما في الجسم كله.

ذو صلة

وهذا الترابط بين البيئة الفموية ووسائل مقاومة الأمراض يفتح باباً واسعاً لفهم جديد عن معنى الصحة الفموية وأثرها المباشر على جهاز المناعة وجودة الحياة عامة. فريق البحث ينظر إلى "إينوكليز" وكأنك تكتشف فصلاً جديداً أُضيف فجأة إلى كتاب قديم تعرفه جيداً، لكنه يحمل ملاحظات وحواشٍ تغير تصوراتك بالكامل عن الأحداث.

في الخلاصة، لا يمكن التقليل من أهمية هذا الكشف العلمي عن وجود حلقات وراثية عملاقة تعيش في أفواهنا، تحمل معها أسرار الصحة، وربما خططاً دفاعية تنقذنا مستقبلاً من أمراض خطيرة كالأورام السرطانية. وبينما يتواصل البحث، يبدو جلياً أن الفم ليس مجرد مدخل للطعام فحسب، بل عالم ميكروبيولوجي نابض بالأفكار الجديدة وصراعات البقاء الحميدة- وكل اكتشاف فيه يُعيد رسم حدود معرفتنا عن أجسادنا وعلاقتنا بالكائنات الدقيقة المرافقة لنا منذ الأزل.

ذو صلة