مليون سنة ولم يتعفن… من الذي حفظ هذه الأدمغة؟

3 د
اكتشف العلماء أحفورة لدودة عمرها 520 مليون عام، محتفظة بدماغ وأحشاء شبه كاملة.
تعتبر هذه الأحفورة بمثابة "كنز ذهبي" لدراسة تطور الجهاز العصبي.
تم الكشف عن تفاصيل دقيقة بواسطة تقنية الأشعة السينية ثلاثية الأبعاد.
يعتبر هذا الاكتشاف خطوة لتوسيع البحث في التطور المبكر للمفصليات.
هذا الإنجاز يفتح الباب لفهم أعمق لتطور الحياة الأولى على الأرض.
من كان يتخيل أن دودة صغيرة عاشت منذ أكثر من نصف مليار سنة ستمنح الإنسان نافذة استثنائية يطل منها على أعماق تطور الكائنات؟ هذا ما حدث بالفعل بعدما اكتشف علماء بقايا أحفورية مذهلة يُقدّر عمرها بنحو 520 مليون عام، وما يميزها حقًا هو احتفاظها بدماغ وأمعاء وهيكل عصبي شبه متكامل، في حالة شبه مثالية أدهشت الأوساط العلمية.
الحفاظ على أسرار الكائنات القديمة: معجزة بين الصخور
يدرك أغلبنا شكل الأحافير التقليدية: عظام متحجرة لديناصورات أو بقايا هياكل صلبة عمرها ملايين السنين. ففي العادة، لا تُحافظ الظروف الطبيعية إلا على الأجزاء الصلبة من الكائنات، مثل العظام والأصداف، أما الأنسجة الرخوة فتختفي بسهولة مع مرور الزمن. لكن هذه المرة، تحدّت الطبيعة كل القوانين عندما تمكنت هذه الأحفورة الصغيرة، وهي يرقة دودية، من النجاة بدماغها وأمعائها وحتى بعض أعصابها الداخلية. العلماء وصفوا هذا الاكتشاف بـ"الكنز الذهبي" لأن التفاصيل المذهلة المحفوظة جعلت بالإمكان دراسة بُنية الجهاز العصبي والدماغي والمعدة، بل وتحديد ملامح جهازها الدوري وأثر التطور عليها عبر الزمن.
ولأن فهمنا للأحفورات القديمة غالبًا ما يتوقف عند الأجزاء الصلبة، يربط هذا الاكتشاف الفريد بين معايير الحفظ الكلاسيكية والفرص الاستثنائية التي تتيحها التقنيات الحديثة.
كشف الستار عن بنى دقيقة عمرها نصف مليار سنة
لم يكن هذا الكشف ليرى النور دون الاستعانة بتقنية الأشعة السينية المتقدمة، وبالتحديد ما يُعرف باسم تصوير الأشعة المقطعية «سينكروترون». هذه التقنية تتيح للعلماء رؤية طبقات الكائنات الأحفورية من الداخل وبدقة ثلاثية الأبعاد دون إلحاق ضرر بها. كشف الفحص عن تفاصيل حية لدماغ اليرقة والغدد الهضمية وتفرعات عصبية دقيقة تغذي الأرجل البدائية والعينين. المثير هنا أن العلماء رصدوا منطقة محددة في دماغ اليرقة تُسمى "البروتوسيريبروم"، وهي لبنة أساسية تطورت لاحقًا إلى تركيبات رأسية جعلت المفصليات (مجموعة تشمل الحشرات وسرطان البحر والعناكب) قادرة على غزو كل البيئات، من أعماق البحار حتى أشد الأماكن تطرفًا على اليابسة.
هذا الربط بين التفاصيل الدقيقة للأحافير وبين فترة "الانفجار الكمبري" يعكس قوة الأدلة الجديدة في فهم تطور المفصليات وبداياتها البعيدة.
رؤية جديدة لجذور التطور: المفصليات تحت المجهر
فحوصات العلماء لهذا الكنز أعادت رسم خريطة تطور المفصليات، حيث كشفت أن أدمغة تلك الكائنات كانت أكثر تطورًا وتعقيدًا مما كان يعتقد سابقاً. من خلال المقارنات بين بنية الأعصاب وتوزيع الغدد الهضمية، استطاع الباحثون تتبع خطوط التطور الممتدة بين هذه اليرقة القديمة وأنواع معاصرة مثل الحشرات والسرطانات. هذه النتائج تعني أننا ربما نكون قد قللنا من شأن ذكاء وتنوع الكائنات البدائية القافزة في بحر الحياة قبل عصور ضاربة في القدم.
ربط النتائج بالنظريات التطورية يساعد المختصين والمهتمين في فهم كيف أثّرت مثل هذه الطفرات على انتشار الكائنات والحياة على وجه الأرض، بما فيها بقاء بعض الأنواع حتى اليوم في أقسى البيئات مثل القطب الجنوبي.
دهشة العلماء… وأحلام الباحثين تتحقق
عندما عبر رئيس الفريق البحثي عن اندهاشه، قال إنه لطالما حلم بالعثور على يرقة مفصلية متحجرة بهذه الدقة، لكنه كان يظن الأمر أقرب إلى المستحيل نظرًا لهشاشتها الشديدة وصغر حجمها. لكن المفاجأة كانت أكبر من التوقعات، فمشاهدة كل هذه التفاصيل الدقيقة محفوظة تحت جلد مخلوق عاش قبل نصف مليار سنة، أشعرته بدهشة وامتنان للطبيعة التي منحتهم هذا الكنز التطوري. ويؤكد الفريق أن هذه اليرقة، بحالتها الفريدة، تُعد واحدة من أوضح النوافذ التي تطل مباشرة على الحياة الأولى فوق الأرض.
وخلاصة القول، فإن هذا الاكتشاف ليس مجرد إضافة لأرشيف الحفريات، بل خطوة نوعية تفتح شهية العلماء لتوسيع البحث حول مراحل التطور الأولى للحيوانات، وفهم روابطها مع المخلوقات المعاصرة. درسنا اليوم يرينا كيف يمكن لحسن الحظ والتقنيات الحديثة معاً أن يعيدا كتابة قصة الحياة على الأرض من جديد، بنفس القدر من الدهشة والشغف الذي صاحب البدايات الأولى للتطور قبل ملايين السنين.









