من الأعماق… تفكك غامض لقشرة الأرض يرعب العلماء في المحيط الهادئ!

3 د
تمكن فريق بحثي من رصد تفكك منطقة اندساس تكتوني قرب سواحل كاسكاديا.
تعد مناطق الاندساس المحرك الرئيسي لجيولوجيا الكوكب.
باستخدام تقنيات تصوير زلزالي متطورة، تمكن الباحثون من رؤية انهيار التدريجي.
تنفصل أجزاء صغيرة بصورة تدريجية بفضل الحدود التحويلية.
النتائج لا تغير التوقعات الزلزالية قصيرة المدى، لكن تحسن فهم بنية الصفائح.
في اكتشاف علمي غير مسبوق، تمكن فريق بحثي من رصد لحظة نادرة لتفكّك منطقة اندساس تكتوني قرب سواحل كاسكاديا في شمال غرب المحيط الهادئ. الدراسة، التي نُشرت في مجلة *Science Advances*، تقدّم رؤية جديدة لكيفية "احتضار" الصفائح التكتونية وتحوّلها إلى حدود جيولوجية جديدة — وهي عملية طالما حيّرت العلماء منذ عقود.
تُعد مناطق الاندساس المحرك الرئيس لجيولوجيا الكوكب، فهي المسؤولة عن إعادة تدوير القشرة الأرضية وولادة القارات وإطلاق الزلازل الكبرى والثورات البركانية. لكن هذه الأنظمة العملاقة، رغم قوتها، ليست أبدية. فالعلماء يدركون أن استمرار الاندساس بلا توقف سيقود في النهاية إلى اندماج القارات وزوال المحيطات، وهو ما يتناقض مع التاريخ الجيولوجي المتنوع للأرض.
وهنا ينتقل الحديث إلى الدراسة الجديدة التي ركزت على منطقة كاسكاديا، حيث تنزلق صفيحتا “خوان دي فوكا” و“إكسبلورر” ببطء تحت الصفيحة الأمريكية الشمالية. باستخدام تقنيات تصوير زلزالي متطورة تشبه "الأشعة فوق الصوتية" لباطن الأرض، إلى جانب تحليلات دقيقة لبيانات الزلازل، تمكن الباحثون من رؤية لوحة مدهشة: منطقة اندساس تنهار تدريجياً قطعة بعد أخرى.
منطقة كاسكاديا تحت المجهر
انطلقت البيانات الرئيسة من بعثة “CASIE21” المدعومة من المؤسسة الوطنية للعلوم الأمريكية عام 2021. فقد أطلق العلماء خلالها موجات صوتية في قاع المحيط وقاسوا انعكاسها بسلسلة مجسات بحرية تمتد 15 كيلومتراً. النتيجة كانت صوراً تكشف صدوعاً عميقة وشقوقاً متشابكة تُظهر أن الصفيحة المحيطية بدأت تنفصل بالفعل.
يقول الجيولوجي براندون شَك من جامعة ولاية لويزيانا: *"لأول مرة نرصد منطقة اندساس في طور الموت، لا تتوقف فجأة بل تتفكك تدريجياً، مكوّنة صفائح دقيقة جديدة وحدوداً ناشئة."*
يُظهر التحليل أن الصفائح تتعرض لتمزقات على عمق يفوق خمسة كيلومترات، وأن بعض المقاطع فقدت نشاطها الزلزالي تماماً — وهي علامة على انفصالها الكامل. أما المقاطع التي ما زالت تهتز فتدلّ على أن عملية الانفصال ما زالت جارية.
وبينما تذكّر هذه المشاهد بانهيار قطار ضخم يتفكك عربة بعد أخرى، فهي تفتح الباب أمام فهم أعمق لكيفية انهيار أنظمة الاندساس حول العالم، من المكسيك إلى اليابان.
كيف تموت الصفائح العملاقة؟
يشرح العلماء أن ما يحدث في كاسكاديا ليس انهياراً فورياً، بل تفسّخ على مراحل “متقطعة”، إذ تنفصل أقسام صغيرة تباعاً بفضل الحدود التحويلية (Transform Boundaries) التي تقطع الصفيحة مثل مقص طبيعي. ومع تتابع هذه الانفصالات، تفقد الصفيحة الطاقة التي كانت تشدها إلى الداخل، تماماً كما يتباطأ قطار عندما يُفصل عنه عدد من العربات.
هذا النمط “التدريجي” يفسّر لغزاً طويلاً في سجل الأرض الجيولوجي، إذ عُثر على أجزاء صفائح قديمة “ميتة” قبالة سواحل باخا كاليفورنيا، تعود إلى صفيحة فارالون الضخمة التي اندثرت قبل ملايين السنين. واليوم تُظهر كاسكاديا المشهد الحيّ لمثل هذا المصير.
وهذا يربط بين ما يرصده العلماء حالياً وبين فهمهم لتاريخ الأرض البعيد، حيث تولّد عملية التمزق ثقوباً في قاع الصفيحة تسمح بارتفاع الصهارة من الوشاح السفلي، ما يفسّر سلاسل الانفجارات البركانية المتعاقبة في تلك المناطق.
مستقبل الزلازل في المنطقة
رغم أن هذه النتائج تمنح الباحثين فهماً أكثر دقة لبنية الصفائح وقوتها، فإنها لا تغيّر بشكل كبير من التوقعات الزلزالية قصيرة المدى. فـمنطقة كاسكاديا ما تزال قادرة على توليد زلازل هائلة وموجات تسونامي ضخمة. لكن مراقبة هذه التمزقات الجديدة ستساعد في تحسين النماذج التي تقيّم كيفية امتداد الهزات الأرضية عبر القشرة.
في الختام، تبيّن أن الأرض ليست جسماً ساكناً كما يظن كثيرون، بل كوكب ينبض بالحركة الدائمة. وما جارٍ قبالة المحيط الهادئ اليوم هو مجرد فصل آخر في قصة مستمرة عن تشكّل الأرض وتجدّدها عبر العصور — حيث تموت صفائح وتولد أخرى، وتبقى القشرة في تغيّر لا ينتهي.









