حفريات مرعبة تكشف عن احتفالات دموية بالنصر منذ 6 آلاف عام في فرنسا

3 د
اكتشف الباحثون حفرًا أثرية في شمال شرق فرنسا تعود إلى 6000 عام.
تحتوي الحفر على هياكل عظمية وأذرع مقطوعة تشير إلى طقوس دموية.
تشير الأدلة إلى أن الأطراف قُطعت كغنائم حرب وعُرضت علنًا.
تشير التحاليل إلى أن الأذرع تعود لمهاجمين من شمال ألزاس.
تساهم هذه الاكتشافات في فهم تكوين الهويات والانتماءات في المجتمعات القديمة.
في قلب شمال شرق فرنسا، بين سهول ألزاس الهادئة اليوم، يكشف باحثون عن جانب صادم من ماضي المنطقة. فما الذي يمكن أن تخفيه حفر أثرية عمرها ستة آلاف سنة، وداخلها هياكل عظمية محطمة وذراعان مقطوعتان وأدلة دامغة على التعذيب الوحشي؟ التفاصيل الجديدة تتجاوز مجرد تاريخ دموي، وتزيح الستار عن طقوس احتفالية، وعن أساليب دعاية حربية لطالما شكلت أسس المجتمعات القديمة.
العثور على مسارح الموت الجماعي
يكشف العلماء أن هذه الحفر وُجدت تحديداً في موقعي أشنهيم وبرغهايم، حيث عُثر على 14 هيكلاً عظمياً إلى جانب عدد من الأذرع اليسرى المقطوعة في طقوس غامضة تعود إلى العصر النيوليتي المتأخر، أي نحو 4300–4150 قبل الميلاد. وبتحليل بقايا العظام وتحديد مواقع الجروح والكدمات، تمكن فريق البحث بقيادة عالمة الآثار تيريزا فرناندِز-كريسبو من تأكيد أن الأطراف العليا قُطعت كغنائم حرب وأن الجثث خضعت لمستوى فظيع من النكال، في مشهد قد يشبه عروض الدعاية الحربية العلنية. اللافت أن الكسور الكثيرة في الأطراف السفلية أظهرت نية واضحة لمنع الضحايا من الهرب، بينما توحي الثقوب المميزة في بعض الجماجم بأن الأجساد عُلّقت على هياكل ليراها الجميع بعد تعذيبهم، وهو ما يعزز فرضية إقامة طقوس عامة للاحتفال بالنصر والتشفي في الأعداء.
ولا يتوقف الأمر عند هذا الحد، بل يتضح من تفاصيل المشهد أن هذه المجازر لم تكن مجرد جرائم معزولة، بل جزء من روتين اجتماعي مرتب ومدروس هدفه ترسيخ وحدة المجتمع المنتصر وتثبيت سلطته. هذا الربط بين الطقوس الدموية وتعزيز تماسك الجماعة المحلية يلقي ضوءاً جديداً على طرق بناء الهوية والانتماء في تلك المجتمعات القديمة.
كشف الأصول عبر التحليل النظائري
ولفهم أعمق لهوية الضحايا والجناة في هذه الفاجعة التاريخية، لجأ الباحثون إلى التحليل النظائري لأسنان وعظام عشرات البشر والحيوانات المعاصرة لهم. كشفت النتائج عن تفاصيل مثيرة: الأذرع المقطوعة تعود غالباً إلى مهاجمين قادمين من شمال ألزاس المجاور، بينما يحمل معظم الهياكل العظمية كامل الجسد بصمات مهاجرين أو أسرى من جنوب ألزاس، ما يرجح نقلهم قسراً بعد الهزيمة ليكونوا ضحايا للطقس الانتقامي.
وهذا يقدم لنا تفسيراً للتعامل التفاضلي مع الأسرى: فتقطيع الأذرع رمز لتكريم النصر وتخليد التفوق العسكري، أما المذابح الجماعية فترتبط برغبة في الانتقام واسترداد الكرامة لمن فقدوا خلال النزاعات. وتُعد هذه النتائج خطوة مهمة في فهم ماهية الحروب القبلية، وكيفية تعامل القدماء مع مفهومي الشرف والهزيمة والانتصار.
طقوس الدم بين الدعاية والقرابين
لم يَغفل الباحثون الجانب الروحي من هذه الذبائح الجماعية؛ في حين تؤكد الأدلة التشوهات الواضحة والتعذيب العلني للضحايا، اقترح بعض العلماء احتمالية وجود طقوس قرابين، حيث قُدمت الضحايا للأجداد أو للآلهة عرفاناً بالنصر، تماماً كما فعلت الكثير من الثقافات القديمة بعد اجتياز أوقات الحرب. ويرى ريك شلتينغ، عالم الآثار والمؤلف المشارك في الدراسة من جامعة أكسفورد، أن تلك الطقوس لم تكن مجرد تعبير عن الكراهية، بل تجسيداً لظاهرة اجتماعية معقدة يستعمل فيها العنف كسلاح سياسي ووسيلة لصياغة الذاكرة الجمعية وتعزيز سردية التفوق والاستحقاق.
وغني عن القول أن هذه الممارسات كانت في بعض الأحيان طريق المنتصر نفسه إلى الهلاك، إذ أن قبائل المنتصرين لم تبقَ للأبد، بل وقعوا بدورهم تحت سطوة موجات جديدة من الغزاة في دورات عنف لم تتوقف عبر الأزمنة.
معنى الاكتشاف
هذه الأبحاث تسهم في إعادة بناء صورة دقيقة عن تاريخ الإنسان في أوروبا ما قبل التاريخ، وتفسر جانباً من ميل المجتمعات لتوظيف العنف في تأسيس وحدتها وتماسكها، سواء عبر الحرب، أو الطقوس، أو حتى الدعاية. وبتحليل شامل للهياكل الدموية، والرموز والطقوس، يوفر لنا العلم اليوم نافذة تطل على الماضي البعيد، لنفهم كيف تشكلت القيم، وكيف صيغت صور الهوية والانتماء في عصور ما قبل الكتابة.
وبينما يستمر الباحثون في الكشف عن المزيد من تفاصيل تلك المجتمعات، يظل السؤال حاضرًا: إلى أي مدى تغيّر خطاب النصر والعداء فينا عبر العصور، وما الذي بقي ساكناً فينا من طقوس صاخبة عمرها آلاف السنين؟









