الأرض لم تكن آمنة أبدًا… كارولينا الشمالية تحمل بصمة غزو من الفضاء

4 د
تمكن فريق جيولوجي من كشف آثار نيزك وتسونامي في كارولاينا الشمالية.
الطبقات الأرضية المسمّاة "تكوين جبل هيليكون" تشير لأحداث كونية محتملة.
يظهر تركيز الإيريديوم المرتفع وجود توقيع فضائي في الترسبات المكتشفة.
تتضمن الرواسب كريات لابيلي نادرة وبقايا من البحر والأرض.
يقدم الاكتشاف أدلة جديدة عن تأثير الفضاء على الأرض والتغير المناخي.
في قلب منطقة "ساندهيلز" في ولاية كارولاينا الشمالية، تمكن فريق من الجيولوجيين بقيادة الدكتور روبرت جانيس من كشف النقاب عن مشهد جيولوجي يحبس الأنفاس، يحمل في طياته أسرار اصطدام نيزكي هائل وتسونامي ضخم ضرب تلك المنطقة قبل ملايين السنين من عصرنا الحالي. هذا الاكتشاف، الذي أضاء تفاصيله مجلة "جيولوجيا الجنوب الشرقي"، يضعنا أمام دليل دامغ على أن الأرض مرت بأحداث كونية أثرت في شكلها وحياة سكانها عبر العصور.
بدأت القصة حين رصد العلماء في تلال منطقة "باينت هيل" تسلسلاً لطبقات ترابية متباينة، توثّق كيف ترك ارتطام نيزك ضخم آثاره الواضحة، تبعته موجة تسونامي عاتية قلبت التربة ونقلت معها عناصر من عمق القشرة الأرضية وحتى البحار المجاورة. يُطلق الآن على هذه الطبقات المتفردة اسم "تكوين جبل هيليكون"، وتتكون من أربعة أسرّة صخرية مميزة، تضمنت مؤشرات نادرة لأحداث كونية، مثل ارتفاع تركيز معدن الإيريديوم، ووجود قطع من الكوارتز المتغيّر بالضغط، إضافة لبقايا كربونية وزجاجية نادرة جداً.
ولربط خيوط هذه الدراما الجيولوجية بالواقع العلمي، تشير الأدلة أن هذه الطبقات المتكونة تعود إلى أواخر العصر الثالث (الإيوسين)، وتُعد امتداداً للتأثير الهائل الذي أحدثه ارتطام نيزك في منطقة خليج تشيسابيك—على بُعد أكثر من 370 كيلومتراً شمال شرق كارولاينا، والذي وصفته هيئة المسح الجيولوجي الأمريكية بأنه "أكبر فوهة ارتطام معروفة بالولايات المتحدة والسابع عالمياً". ووجود مثل هذه الرسوبيات في كارولاينا دليل على أن آثار الصدمة الكونية تجاوزت حدود الفوهة ووصلت إلى أعماق اليابسة عبر موجات تسونامي اقتلعت التربة ونثرت بقايا النيزك لمسافات شاسعة.
وهنا تظهر أهمية الطبقة الأولى من هذا الاكتشاف، حيث عثر الباحثون على سمك قدره نحو 43 سنتيمتراً من التربة الداكنة المشبعة بزجاج الكربون وحطام الصخور، مع تركيز مذهل للإيريديوم وصل إلى نحو 18 جزء في المليار، وهو مستوى لا يوجد عادة إلا في الشهب والنيازك وليس في صخور كوكبنا الأرضي. هذا يعتبر توقيعاً أبدياً للمصدر الفضائي، ويشبه بشكل لافت الارتفاع في نسبة الإيريديوم الذي رُبط بانقراض الديناصورات بفعل نيزك يوكاتان الشهير.
بعد ذلك، تتكون الطبقة الثانية من رواسب رفيعة تحتوي على كريات دقيقة تُعرف باللابيلي الانصهارية—وهي كريات تشكّلت من اندماج جزيئات الصخور في أعقاب عواصف الجو التي أثارها الاصطدام. هذه اللابيلي نادرة الحدوث وغير مدروسة كفاية، لكن وجودها هنا يؤكد مدى العنف الذي شهدته الغلاف الجوي المحلي إثر النيزك ودوره في خطر التغير المناخي وقتها. انتقالاً للطبقة الثالثة، نجد طبقة من "البريشيا" الحاوية على مزيج جنوني من بقايا بحرية وأرضية، كشظايا الصوان الحاوية للفوسفور وقطع الأخشاب المتحجرة والتربة القديمة المتصلبة—لتشكل دليلاً مادياً على اجتياح مياه البحر ومسحها للأرض بقوة. أما الطبقة الرابعة والأخيرة فهي عبارة عن رمال خشنة من آثار ارتداد المياه واندفاعها مرة أخرى، ولها بنية تشير إلى حركة تيارات متجددة لمد وجزر التسونامي، ما يزيد الصورة اتساعاً ودقة.
جاء هذا التسلسل الجيولوجي ليؤكد أن ما جرى في كارولاينا لم يكن مجرد حدث محلي، بل نتاج تفاعل كونّي واسع النطاق جمع بين عناصر الكويكبات، وفعل موجات التسونامي، وتغيير ملامح القارات. فوجود الكوارتز المصدوع (شكيدد كوارتز) والعناصر البحرية في قلب أرض "ساندهيلز"، يدعم تحليل التغييرات الطارئة على نظم التربة والسواحل إبان هذه الكارثة، ويمد العلماء اليوم بمرجعية جديدة لتأريخ طبقات الرسوبيات وربطها بانعكاسات التغير المناخي القديم على الحياة البرية والبحرية.
تتضح أهمية هذا الدليل الأثري المتكامل في فهم تأثيرات الصدمات الفضائية على شكل الأرض، وهنا تكمن النقلة النوعية في أبحاث الجيولوجيا—إذ توفر عينات الإيريديوم واللابيلي والكوارتز المصدوع قرائن قاطعة على عنف الاصطدامات الكونية، وتساعد في تفسير أسباب التغيرات المناخية والانقراضات الجماعية عبر العصور. استمرار التحليل والدراسة لهذه العينات من "جبل هيليكون" سيكشف أسراراً جديدة عن دور الفضاء في رسم ماضي كوكبنا ومستقبله، ويمنح العلماء بوابة لرصد احتمالات تكرار مثل هذه الأحداث مستقبلاً.
في نهاية المطاف، يكشف هذا الاكتشاف في ساندهيلز عن حلقة جديدة مهمة في سلسلة أحداث جيولوجية ضخمة، تثبت أن الأرض لم تكن يوماً بمعزل عن الفضاء ومفاجآته، وأن الصدمات الكونية شكلت ملامح السواحل والقارات ودفعت البشرية لجمع خيوط الماضي كي نفهم حاضرنا ومستقبلنا بشكل أفضل.









