العلماء يفكون شفرة الجوع… الخلايا العصبية التي تتحكم في كل وجبة تتناولها!

3 د
حدد العلماء خلايا دماغية تسجل تفاصيل الوجبات، تؤثر على الشهية والسمنة.
تعمل هذه الخلايا في منطقة "الحُصين البطني" وترتبط بتجربة الأكل والشبع.
توضح الدراسة أن الانشغال أثناء الأكل يضعف "ذاكرة الوجبة"، مما يسبب الجوع المتكرر.
الاكتشاف يفتح بابًا لعلاج السمنة عبر تعزيز ذاكرة الدماغ لتوجيه السلوك الغذائي.
توصّل فريق من العلماء إلى تحديد نوع فريد من الخلايا العصبية المسؤولة عن تسجيل تفاصيل الوجبات في الدماغ، سواء ما نأكله أو متى نأكله. الدراسة، التي نُشرت في مجلة *Nature Communications*، قد تفسّر لماذا يُصاب بعض الأشخاص الذين يعانون من ضعف الذاكرة بنهمٍ غذائي أو بتكرار تناول الطعام في فتراتٍ قصيرة، وما إذا كان فقدان تذكّر الوجبة الأخيرة قد يزيد من الإحساس بالجوع ويقود إلى السمنة.
في أثناء الأكل، تُفعَّل مجموعة من الخلايا العصبية داخل منطقة تسمى «الحُصين البطني» في الدماغ، لتكوّن ما أطلق عليه الباحثون "بصمات الوجبة" أو *Meal Engrams*. وهذه البصمات عبارة عن آثار عصبية دقيقة تسجّل تفاصيل التجربة الغذائية. ورغم أن العلماء يعرفون منذ زمن أن الأنجْرامات تحفظ الذكريات العادية، فإن هذه المرة الأولى التي تُكتشف فيها خلايا مخصّصة لتسجيل الذكريات المرتبطة بالطعام.
وهنا يربط الباحثون بين دور هذه الخلايا وبين علاقة الذاكرة بسلوك الأكل لدى الإنسان. فالمرضى الذين يعانون من أمراض مثل الخرف أو إصابات الدماغ، التي تعيق تكوين الذاكرة، غالباً ما يشعرون بحاجة متكررة للطعام لأنهم ببساطة لا يتذكرون أنهم تناولوا وجبتهم قبل قليل.
كيف تعمل ذاكرة الوجبة؟
تكشف الدراسة أن هذه "الذاكرة الغذائية" تتكوّن خلال اللحظات الفاصلة بين اللقمة والأخرى، حين يتوقّف الدماغ بشكل طبيعي ليتأمل المحيط ويتعرّف على المكان والزمن المرتبطين بالطعام. في هذه الثواني القصيرة، تندمج الإشارات القادمة من الحواس لتكوّن ذاكرة متكاملة تدير العلاقة بين الأكل والشبع.
وانطلاقاً من ذلك، يُرجّح الباحثون أن الأكل أثناء الانشغال بالهاتف أو مشاهدة التلفزيون يضعف تلك اللحظات المهمة لتشفير الذاكرة، ما يجعل الدماغ لا "يسجّل" تجربة الوجبة جيداً، فيشعر الإنسان بالجوع مجدداً بعد وقت قصير.
وهذا يقود إلى جانب آخر من البحث، إذ تمكّن العلماء للمرة الأولى من رصد نشاط هذه الخلايا في أدمغة الفئران بشكل لحظي أثناء تناولها الطعام، باستخدام تقنيات متقدمة في تصوير الدماغ.
اتصالات خفية بين الحُصين ومركز الشهية
توضح التجارب أن خلايا «ذاكرة الوجبة» تختلف عن الخلايا المسؤولة عن الذكريات الأخرى. فعندما تخلّص الباحثون من هذه الخلايا لدى الفئران، فقدت الحيوانات قدرتها على تذكّر مواقع الطعام لكنها احتفظت بذاكرتها المكانية العادية، مما يشير إلى نظام متخصص لمعالجة المعلومات المرتبطة بالأكل.
كما كشفت الدراسة أن هذه الخلايا تتواصل مع منطقة الوطاء الجانبي (lateral hypothalamus)، وهي مركز رئيسي للتحكم في الجوع والسلوك الغذائي. وعندما تم تعطيل هذا الاتصال بين الحُصين والوطاء، بدأت الفئران بالأكل المفرط وفقدت إدراكها لمكان الوجبة السابقة.
ومن هنا ينتقل البحث إلى تأثير أوسع على الطب الحديث، إذ يمكن أن تُسهم النتائج في تطوير أساليب جديدة لعلاج البدانة واضطرابات الأكل، ليس عبر ضبط السعرات أو التمارين فقط، بل من خلال تعزيز قدرة الدماغ على تذكّر الوجبات.
الذاكرة مفتاح التوازن الغذائي
البروفيسور سكوت كانوسكي، أحد المشاركين الرئيسيين في الدراسة من جامعة كاليفورنيا الجنوبية، أشار إلى أن تذكّر ما ومتى أكلنا لا يقل أهمية عن نوعية الطعام نفسه. فوجود ذاكرة قوية للوجبات قد يساعد على ضبط إشارات الجوع والشبع بصورة طبيعية دون تدخل قسري في النظام الغذائي.
وهذا يربط الاكتشاف الجديد بمستقبل إدارة الوزن القائم على تقوية الدماغ، لا على الحرمان الغذائي، وقد يفتح الباب لاستراتيجيات علاجية تُعيد للذاكرة دورها الطبيعي في تنظيم الشهية.
في النهاية، يمكن القول إن الباحثين ألقوا الضوء على حلقة مفقودة في فهم علاقة الدماغ بالجوع: فذاكرة الوجبة ليست مجرد تذكّر ما أكلناه، بل هي آلية عصبية دقيقة تتحكم في رغبتنا المستقبلية في الطعام، وقد تكون مفتاحاً لتوازننا الغذائي وصحتنا العامة.









