ذكاء اصطناعي

اللغز الذي حيّر العلماء… لماذا نحب رائحة الأرض بعد المطر؟

محمد كمال
محمد كمال

3 د

تُعرف الرائحة بعد سقوط الغيث علمياً باسم "البتركور"، وهو مركب ناتج عن بكتيريا "أكتينوميستات".

يتفاعل المطر مع الأتربة والمركبات العضوية، حيث يرفع الأبواغ البكتيرية والروائح إليها.

تُفرز الأشجار زيوتاً تتفاعل مع المطر، مما يضفي طابعاً نباتياً على الرائحة.

تشير الأبحاث إلى أن انجذاب البشر لهذه الرائحة نابع من تجارب تاريخية تُشعر بالأمان والوفرة.

ما إن تهطل أولى قطرات المطر على أرض عطشى حتى يلتقط أنفك رائحة مميزة، يميل الكثيرون لوصفها بأنها عطر الطبيعة الخالص. هذا الأريج الذي ارتبط في الذاكرة بالصفاء والبدايات يحمل اسماً علمياً شاع كثيراً في الأبحاث: **البترِكُور**. فما أصل هذه الرائحة ولماذا يشعر البشر بانجذاب خاص لها؟

في ستينيات القرن الماضي، وضع عالمان أستراليان تعريفاً دقيقاً لهذه الظاهرة التي لاحظتها البشرية قديماً دون تسميتها. فقد صاغت الباحثة إيزابيل جوي بير وريتشارد غرينفل توماس مصطلح "بتركور" المستمد من كلمتين يونانيتين تعنيان "حجر" و"سائل الحياة الإلهي". أرادا بذلك إبراز الرابط بين الأرض المبتلة والهواء الذي يحمل هذا الشذا إلى حواسنا. هذا الاكتشاف فتح باباً علمياً واسعاً أمام فهم التفاعلات الكيميائية الكامنة في أعقاب المطر.

وهذا يقودنا إلى ما هو أبعد من مجرد المصطلح، وهو كيمياء الأرض نفسها.


دور البكتيريا والجراثيم


عندما يغمر المطر التربة الجافة، تنشط بكتيريا دقيقة تعرف بـ"أكتينوميستات" التي تنتج مركباً عضوياً يسمى **جيوسمين**. هذا الجزيء مسؤول بالدرجة الأولى عن الرائحة الترابية التي نصفها بالمنعشة. المطر، بضغطه الخفيف وقطراته المتناثرة، يرفع الأبواغ البكتيرية إلى الهواء كما لو كان رذاذ عطر طبيعي. ومن المثير أن معدل قوة الرائحة يزداد عقب فترات جفاف طويلة، لأن التربة تكون قد خزّنت طبقة مركزة من هذه المركبات.

ومن هنا تتضح الصلة بين سلوك الميكروبات في التربة وظاهرة نفسية جماعية نربطها غالباً بالانتعاش بعد الأمطار.


قطرات المطر كمرذاذ طبيعي


دراسة أُجريت في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا عام 2015 قدمت تفسيراً إضافياً: لحظة اصطدام القطرة بسطح مسامي كالتربة تلتقط فقاعات هواء صغيرة تقفز للأعلى وتنفجر ناشرة جسيمات دقيقة في الجو. هذه الجسيمات — وتشمل مركبات عطرية أحياناً وكذلك ميكروبات — هي التي تجعل رائحة المطر تنتشر بسرعة في الأجواء. وقد لاحظ العلماء أن الأمطار الخفيفة أو المتوسطة هي الأكثر فاعلية في نشر هذا العبير مقارنة بالعواصف الغزيرة.

وهذا يربط بين الفيزياء الدقيقة لحركة القطرات وصورة شاعرية نعيشها جميعاً خلال الأجواء الماطرة.


تفاعل النباتات والمواد الكيميائية


ليست البكتيريا وحدها وراء الأمر. فقد تبين أن بعض الأشجار والأعشاب تفرز زيوتاً طيارة تتراكم على الصخور وأسطح الأرض، ومع أول تماس للمطر تنطلق هذه الزيوت في الهواء فتضفي بُعداً نباتياً للرائحة. إلى جانب ذلك، تسبب الأمطار في المدن تفاعلات مع مخلفات بشرية أو مركبات كيميائية على الأسفلت، وهو ما قد يفسر أن رائحة ما بعد المطر ليست دائماً محببة للجميع، بل أحياناً تحمل شيئاً من الحدة أو النفاذية.

وهكذا يتضح أن التركيب النهائي لـ"شذا المطر" مزيج معقد من عناصر طبيعية ونشاط بشري.


أثر نفسي وتاريخي


علماء الأنثروبولوجيا يرجحون أن انجذابنا لهذه الرائحة يعود لأصل بيولوجي: فالمطر تاريخياً كان يبشر بوفرة الماء وعودة الحياة بعد فترات الجفاف، ما يجعل الإحساس بالرائحة محفوراً في وعي الإنسان كتجربة أمان وطمأنينة. فوق ذلك، يقترن المطر بذكريات شخصية؛ أصواته على النوافذ، جلسات دافئة، أو لحظات رومانسية، ما يضاعف أثره النفسي ويجعلنا نصف هذا الطابع بالرائحة "المحببة".

وهذا يفتح الباب لفهم كيف تتداخل كيمياء التربة مع شعورنا الجمعي بالراحة والألفة.

في النهاية، فإن **البتركور** ليس مجرد مركب كيميائي، بل قصة تفاعل بين الأرض والسماء، بين العلم والذاكرة الإنسانية. كل قطرة مطر تحمل معها حكاية طبيعية معقدة لكنها قريبة من القلب، تجعلنا نقف لحظة ونستنشق بعمق، وكأننا نتواصل مع خزان الحياة القديم الكامن في أعماق الأرض.

ذو صلة

ذو صلة