دوائر الحمض النووي تبدأ بتخزين البيانات… بالطاقة الحرارية فقط!

3 د
كشف العلماء عن تقنية تجعل جزيئات الـDNA تخزن وتعيد شحن نفسها باستخدام الحرارة.
تُعتبر هذه الطريقة بديلاً مبتكراً لرقائق السيليكون في الحوسبة الجزيئية.
التقنية تستلهم من دورات الحرارة المحتملة التي نشأت منها الحياة.
تنجح دوائر الـDNA بتنفيذ عمليات حسابية معقدة باستخدام 200 جزيء مختلف.
قد تغير هذه الاكتشافات مستقبل الحوسبة وتربط بين الطبيعة والتكنولوجيا.
قد يبدو الأمر أقرب إلى الخيال العلمي، لكن فريقاً من العلماء كشف عن طريقة مبتكرة تجعل جزيئات الـDNA قادرة ليس فقط على تخزين المعلومات بل أيضاً على “إعادة شحن” نفسها باستخدام الحرارة كبديل للطاقة التقليدية. هذه النتائج نشرت في مجلة *نيتشر* مطلع أكتوبر، وتفتح الباب أمام جيل جديد من الحواسيب الحيوية التي تعمل بكفاءة غير مسبوقة.
منذ التسعينيات والحديث عن **حوسبة جزيئية** باستخدام الـDNA يثير فضول الباحثين باعتباره بديلاً محتملاً لرقائق السيليكون. الفكرة تقوم على استغلال الخصائص الكيميائية للقواعد النووية لإجراء عمليات حسابية أو حفظ البيانات بشكل أكثر استدامة من الأقراص الإلكترونية. لكن التحدي ظل قائماً: ما هو المصدر الذي يغذي هذه الدوائر الجزيئية بالطاقة ويضمن استمراريتها؟
وهنا جاء الاكتشاف الأخير ليقترح إجابة بسيطة وقريبة: **الحرارة**. الفريق البحثي صمم دوائر DNA يمكنها الدخول في حالة "لا توازن حراري". عند تسخين النظام، تتمدد الجزيئات وتنقسم إلى خيوط مفردة، وعندما يبرد تعود إلى حالتها الأصلية. هذه الدورة من التسخين والتبريد أشبه ببطارية يعاد شحنها، إذ تخزن الجزيئات الطاقة في كل مرة تعود فيها نحو التوازن.
محاكاة للطبيعة وبداية جديدة
المثير أن الفكرة استوحيت من فرضيات عن نشأة الحياة نفسها، حيث يُعتقد أن دورات الحرارة الناتجة عن الصخور البركانية في البحار الأولى ساعدت على تحفيز التفاعلات الكيميائية. الباحثة لولو تشيان من معهد كاليفورنيا للتكنولوجيا شبهت التقنية بالسيارات ذاتية القيادة التي تبحث عن محطات الشحن وحدها: الجزيئات مستقبلاً قد تستخدم مصادر حرارة متاحة في البيئة لإعادة شحن نفسها بلا تدخل بشري. وهذا يربط بين أصل الحياة على الأرض وبين تكنولوجيا المستقبل في عالم الحوسبة.
الأبحاث السابقة جرّبت مصادر طاقة مثل جزيء ATP الذي يمد الخلايا بطاقة فورية، لكن هذه الأنظمة اتسمت بالهشاشة وقلة الكفاءة. الآن يظهر أن الاعتماد على حرارة محيطة أو حرارة صناعية يمكن أن يمنح **دوائر DNA** قدرة على الاستمرار لفترات أطول من دون نفايات كيميائية تُذكر.
تطبيقات مرشحة للنمو
في التجارب الأولى، تمكنت الدوائر الحرارية من تنفيذ 16 جولة من عمليات حسابية معقدة باستخدام أكثر من 200 جزيء مختلف. هذا الرقم وإن بدا صغيراً مقارنة بالحواسيب الإلكترونية الفائقة، إلا أنه يمثل قفزة كبيرة في مسار تحويل الحلم الأكاديمي إلى أداة علمية عملية. وهذا يفتح المجال لاستخدامها في **تخزين بيانات ضخمة، تحليل معلومات بيولوجية بدقة، أو حل مشكلات رياضية معقدة** تحتاج إلى آليات غير تقليدية.
ومثلما تربط التقنيات الحديثة بين **الذكاء الاصطناعي** والحوسبة الكمومية، فإن الحوسبة الحيوية بالحرارة قد تصبح جسراً جديداً بين العلوم الطبيعية وتقنيات تخزين البيانات. الباحثون يتوقعون تطوير أنظمة أكبر قادرة على البقاء نشطة لشهور وربما سنوات، مما قد يغير قواعد اللعبة في مجالات مثل الجينوميات أو التكنولوجيا الخضراء.
نحو ثورة في مفاهيم الطاقة
في عالم يسعى باستمرار إلى بدائل نظيفة ومستدامة، تمثل هذه التجربة إشارة مهمة على إمكانية استبدال البطاريات الكيميائية بمفاهيم مختلفة تماماً. الحرارة موجودة في كل مكان، من حرارة الجسم البشري إلى ضوء الشمس وحتى العمليات الصناعية، ما يجعل إمكانية استغلالها للحوسبة الحيوية خطوة منطقية وواعدة. وهذا الربط بين الطاقة المتجددة والدوائر الجزيئية يقدم نموذجاً قد يغير أدبيات التكنولوجيا والبيولوجيا معاً.
في الختام، يكشف هذا البحث عن طريق جديد حيث لا تعود الحرارة مجرد عامل بيئي، بل تتحول إلى "شاحن" طبيعي لآلات جزيئية قادرة على التعلم والتخزين والتفاعل. ومع تراكم الأبحاث، قد نجد أنفسنا أمام حواسيب بيولوجية صغيرة تعمل ذاتياً من خلال تذبذبات الحرارة، لتعيد صياغة الحدود بين الطبيعة والتكنولوجيا.