شيء ضخم يتحرك في أعماق المجرة… إشارة؟ أم بداية حدث كوني؟

3 د
رصد العلماء موجة عملاقة تجتاح مجرة درب التبانة، تغير فهم حركة النجوم.
تُظهر البيانات أن النجوم تتحرك بتموج امتد لألف سنة ضوئية من مركز المجرة.
ربما تعزى هذه الموجات إلى اصطدام قديم مع مجرة قزمة أو تموجات داخلية.
ستعطي بيانات غايا القادمة تفاصيل أدق عن هذه الحركات المجرية الغامضة.
النجوم الحية تروي قصة ماضي المجرة المذهل بحركة تكتب تاريخ الكون.
**تبدو مجرتنا، درب التبانة، أشبه ببحر كوني هائج أكثر من كونها قرصًا هادئًا من النجوم؛ فقد رصد العلماء موجة ضخمة وغير مفهومة تجتاح قرصها الواسع، في اكتشاف قد يكشف خيوطًا جديدة من تاريخها القديم.**
منذ عقود، كان العلماء يعلمون أن المجرة تدور وتترنح قليلًا، لكن التلسكوب الفضائي "غايا" التابع لوكالة الفضاء الأوروبية كشف هذه المرة عن حركة مختلفة تمامًا — موجة كونية عاتية تمتد عبر أرجاء القرص المجري. تُظهر بيانات غايا الدقيقة أن النجوم لا تتحرك في مدارات دائرية مستقرة فحسب، بل تشارك أيضًا في حركة تموجية تمتد لآلاف السنين الضوئية من مركز المجرة، كما لو أن حجرًا ضخمًا قد أُلقي في بحيرة سماوية ساكنة.
وهذا يربط بين التذبذبات التي عرفها العلماء منذ عقود، وبين ظواهر جديدة لم تُكتشف إلا بفضل قدرات الرصد ثلاثية الأبعاد الفريدة لتلسكوب غايا.
تموجات تمتد لعشرات آلاف السنين الضوئية
تُظهر الخرائط الحديثة التي أنتجها فريق إيلويزا بوتّجيو من المعهد الوطني للفيزياء الفلكية في إيطاليا أن هذه الموجة تؤثر في حركة النجوم على مسافات تتراوح بين 30 و65 ألف سنة ضوئية من مركز المجرة. وتوضح القياسات ثلاثية السرعة التي يعتمدها "غايا" أن النجوم في بعض المناطق ترتفع إلى أعلى من مستوى القرص، بينما تهبط أخرى أسفله، مكوّنة شكلًا متموّجًا متسقًا مع سلوك الموجات الكلاسيكي.
هذا الاكتشاف يعيد تشكيل فهمنا لما يحدث في قرص المجرة الخارجي، حيث يُعتقد أن الغاز والنجوم الصغيرة حديثة النشأة تتحرك مع هذا التموج الكوني وكأنها تتذكر "اهتزازًا" قديمًا ما زال يترجم عبر الزمن بحركة جماعية.
وهذا يعزز الفرضية القائلة بأن قرص درب التبانة ليس صلبًا كما كنا نتصور، بل مرن يتفاعل مع الصدمات الكونية والاضطرابات الناتجة عن جاذبية المجرات المجاورة.
أصل الموجة... هل هي آثار اصطدام قديم؟
ما يزال مصدر هذه الموجة العملاقة لغزًا محيرًا. بعض الفلكيين يرجحون أن اصطدامًا قديمًا مع مجرة قزمة جارّة لجاذبية درب التبانة ربما أحدث هذه التموجات التي ما زالت تسري حتى اليوم. بينما يرى آخرون أن الموجة قد تكون مرتبطة باضطراب أصغر يُعرف بـ "موجة رادكليف"، وهو تموج يمتد لمسافة تسعة آلاف سنة ضوئية فقط بالقرب من الشمس.
ورغم أن "موجة رادكليف" تقع في منطقة مختلفة تمامًا من القرص المجري، إلا أن التشابه بين البُنيتين يفتح الباب أمام تساؤلات مثيرة حول طبيعة الارتباط بينهما. يعلّق العلماء قائلين: "ربما تكون الموجتان وجهين مختلفين لعملية ديناميكية واحدة لم نفهمها بالكامل بعد".
وهذا يعيدنا إلى السؤال الأهم في علم الفلك المجري اليوم: هل درب التبانة ما تزال تتعافى من اصطدام قديم، أم أن هذه التموجات جزء طبيعي من بنائها الداخلي؟
آفاق البحث المقبلة
من المنتظر أن يحمل الإصدار الرابع من بيانات "غايا" المرتقب في العام القادم تفاصيل أدق لحركات النجوم المتغيرة مثل نجم الشفق "سيفيد"، وهو ما سيسمح للعلماء برسم خرائط أكثر وضوحًا وتمييزًا للموجات الكونية التي تشق طريقها عبر مجرتنا.
ربما في المستقبل القريب، سنعرف إن كانت درب التبانة تهتز تحت وطأة ذكرى ارتطام كوني قديم، أم أن قلبها المجرّي نابض بموجات طبيعية تهمس بقصص ميلادها الأولى.
خاتمة
يقف العلماء اليوم أمام لوحة كونية مذهلة: مجرة حيّة تتحرك وتتنفس بموجات تمتد عبر آلاف السنوات الضوئية. اكتشاف الموجة العملاقة لا يكشف فقط عن ديناميكية درب التبانة، بل يفتح فصلاً جديدًا في فهمنا لطبيعة المجرات وكيف تتشكل عبر العصور. كل تموج هو حرف في قصة الكون، وكل رصد جديد يقرّبنا خطوة من قراءة تلك القصة كاملة.









