ذكاء اصطناعي

علماء يكتشفون “محيطًا سامًا” يختبئ داخل البحر الأحمر!

محمد كمال
محمد كمال

4 د

اكتشاف برك ملحية سامة في البحر الأحمر أثار دهشة العلماء بعمق 1770 متراً.

هذه البرك تشكل بيئة قاسية بدون أكسجين، لكنها تحتضن كائنات دقيقة مدهشة.

تحفظ البرك تاريخ الأرض الجيولوجي دون اضطراب، مما يدعم فهمنا للعصور القديمة.

تعيش قرب البرك كائنات تستغل الأخطاء في توجيه الفريسة إلى المياه القاتلة.

تبرز هذه الدراسة أهمية حماية أعماق البحر التي تختزن أسراراً بيئية ثمينة.

في مهمة اعتيادية لاستكشاف أعماق **الساحل السعودي** من خليج العقبة، فوجئ فريق علمي بمشهد غير مسبوق على عمق **1770 متراً** تحت سطح البحر. هناك، وسط العتمة، ظهرت برك ملحية كثيفة وغنية بالأملاح السامة، راكدة تماماً وخالية من الأكسجين، فيما يشبه “محيطاً داخل محيط”، كما وصفها العلماء بدهشة.

هذه الظاهرة الفريدة لا تُعد مجرد تكوين جيولوجي غريب، بل نافذة إلى واحد من أكثر البيئات **تطرفاً على كوكب الأرض**. فبينما تمثل هذه البرك “منطقة موت” لأي كائن يخطئ طريقه إليها، تزدهر حول حوافها حياة دقيقة مذهلة توحي بأن الحياة قد تجد طريقها حتى في أقسى الظروف. وهذا الاكتشاف، الذي نُشر في مجلة _Nature Communications_، يفتح الباب أمام فهم جديد لتاريخ الأرض وربما لفرص وجود حياة في عوالم أخرى.

وهذا يقودنا إلى مفارقة مثيرة: كيف تزدهر الحياة على حدود الموت؟


برك نيوم الملحية… الأرشيف الحي لتاريخ البحر

تكمن خصوصية هذه البرك، التي أُطلق عليها اسم **برك نيوم الملحية**، في موقعها القريب من الشاطئ، على بعد كيلومترين فقط من اليابسة. هذا القرب جعلها مختلفة عن نظيراتها في قلب البحر الأحمر، إذ تتغذى على **رواسب طينية** ورمال تنجرف من الوديان والسواحل القريبة، وتتعرض لتأثيرات الزلازل والسيول وحتى أمواج التسونامي القديمة.

حين فحص العلماء عينات من الرواسب أسفل البرك، اكتشفوا طبقات متناوبة من الطين والرمل والرماد البركاني تمتد لأكثر من **1200 عام**، محفوظه بشكل مذهل دون أي اضطراب. ويرجع ذلك إلى الخصائص القاتلة للبيئة هناك، حيث تصل ملوحة المياه إلى أربعة أضعاف ملوحة البحر، وتنعدم فيها **الأكسدة الحيوية**، ما يجعلها بمثابة **حجرة حفظ طبيعية** لكل ما يستقر في قاعها.

بهذا، تتحول هذه الأعماق إلى سجل زمني دقيق، يرسم فصولاً من التاريخ الجيولوجي والبيئي للمنطقة لا يمكن العثور عليها في أي مكان آخر. وهذا يفتح الأفق أمام بعد آخر من الاكتشاف: دور هذه البيئة الفريدة في دعم فهمنا للحياة القديمة على الأرض.


الحياة التي تتحدى المستحيل

رغم الانعدام شبه الكامل للأكسجين، تسكن أطراف البرك مستعمرات من **كائنات دقيقة** تتغذى على الطاقة الكيميائية، مستبدلة ضوء الشمس بمصادر مثل الميثان والكبريت. تحليل العينات الوراثية كشف عن وجود سلالات من البكتيريا والعتائق المشابهة لتلك التي تعيش في **الينابيع الحرارية** أو في البحيرات الجليدية المعزولة بالقارة القطبية.

هذه الكائنات تشكل، بحسب الباحثين، نموذجاً حياً لما قد تكون عليه **الحياة البدائية في محيطات الأرض الأولى**، كما تمنح مؤشراً محتملاً على الكيفية التي قد تنشأ بها حياة في أعماق المريخ أو تحت الجليد في “يوروبا” و”إنسيلادوس” – أقمار المشتري وزحل التي يُعتقد أنها تخفي **محيطات تحت السطح**.

وهذا يربط بين فضول العلماء حول نشأة الحياة على كوكبنا وطموحهم لاكتشافها في أماكن أبعد في الكون.


بيئة قاتلة تتحول إلى فخ طبيعي

في مشهد يوضح كيف يمكن للطبيعة تحويل الخطر إلى فرصة، لوحظت أنواع من **أسماك القرش العميقة** و**الروبيان** تحوم قرب سطح البرك، في انتظار فريسة تضل طريقها وتسقط في المياه المميتة. الكائن الذي يلامس حدود البركة يفقد قدرته على الحركة سريعاً، ليصبح هدفاً سهلاً للمفترسين الذين حفظوا عن ظهر قلب حدود هذه الفجوات القاتلة.

يسمي العلماء هذا التوازن الغريب “**مصيدة الحياة والموت**”، حيث يتحول الخطر نفسه إلى وسيلة للبقاء. وهذا المشهد يقدم دليلاً نادراً على كيف يمكن للبيئة أن تعيد تشكيل السلوك الحيواني عبر مئات السنين من التكيف.

من هنا تظهر أهمية هذه البرك ليس فقط للبيئة البحرية، بل أيضاً **للجيولوجيين وعلماء الزلازل** الذين يرون في طبقاتها سجلاً مثالياً لظواهر كالزلازل القديمة، ومنها أثر زلزال نويبع عام 1995 الذي خلف بصماته ضمن الرواسب.


نافذة إلى ماضٍ الأرض ومستقبلها

ذو صلة

مع توسّع المشاريع على **الساحل السعودي** مثل مشروع نيوم، يدعو الباحثون إلى حماية هذه الأعماق الهشة التي تختزن أسراراً لا تقدّر بثمن. فهذه البرك غير المرئية من السطح تحمل دلائل على **تاريخ المناخ وتطور الأرض**، وقد تساعد في حماية تراث طبيعي علمي قبل أن تمسه يد الإنسان.

بذلك يصبح “المحيط داخل المحيط” أكثر من مجرد ظاهرة علمية؛ إنه تذكير بأن تحت سطح البحر الأحمر ما يزال هناك عالم آخر ينتظر من يرويه لنا، ربما يحمل مفاتيح فهم كيف بدأت الحياة – وكيف يمكن أن تبدأ من جديد.

ذو صلة