ذكاء اصطناعي

لو لم يُمحَ إرث أرخميدس… لسبقنا عصر الفضاء بآلاف السنين

محمد كمال
محمد كمال

3 د

في القرن الثالث عشر، مسح رهبان مخطوطة أرخميدس لتدوين نصوص دينية عليها.

المخطوطة احتوت على اكتشافات أرخميدس التي تسبق حساب التفاضل والتكامل بقرون.

تم اكتشاف النصوص المخفية لأول مرة في عام 1906 بواسطة باحث دنماركي.

تقنيات حديثة كشفت نصوص أرخميدس باستخدام التصوير بالأشعة فوق البنفسجية.

الخبراء يؤكدون أن اكتشاف المخطوطة مبكرًا كان سيسرّع التقدم العلمي بقرون.

تخيل أن تكتشف فجأة أن أحد أعظم العقول البشرية سبق عصره بقرون، وفك شيفرة ألغاز علمية قبل أن يلتفت إليها نيوتن أو ليبنتز بمئات السنين، ثم يضيع كل ذلك في غياهب النسيان بسبب حادثة بسيطة في أحد الأديرة القديمة! هذه بالضبط قصة مخطوطة "أرخميدس" الشهيرة التي كشفت لنا كيف قد يؤثر ضياع وثيقة واحدة في تأخر البشرية عن إنجازات علمية جبارة.

في القرن الثالث عشر الميلادي، جلس رهبان في أحد أديرة القسطنطينية يعملون على نسخ نصوص دينية بطريقة روتينية كما جرت العادة زمان، ولم يخطر في بالهم أن المخطوطة التي محوها لتدوين ترانيم الكنيسة كانت تخفي بين صفحاتها كنزاً علمياً عظيماً. تحت طبقات الكتابات الدينية، ظهرت لاحقًا معادلات وخواطر رياضية مدهشة تعود للعالم الشهير أرخميدس–أحد أعظم الرياضيين في التاريخ الإنساني.

من هنا تبدأ القصة في اكتساب طابعها المثير، إذ لم يتم الانتباه لهذا الاكتشاف إلا عام ١٩٠٦ عندما لمح أحد الباحثين الدنماركيين حروفًا إغريقية باهتة خلف النصوص اللاهوتية. غير أن المخطوطة اختفت من جديد لعقود طويلة، لتظهر ثانية في مزاد خاص عام ١٩٩٨ وتباع لمجهول بقيمة مليونَي دولار! لنكتشف لاحقًا–بفضل تقنية التصوير بالأشعة فوق البنفسجية واستخدام أجهزة حديثة–أن المخطوطة تضم أجزاءً من "طريقة النظريات الميكانيكية" لأرخميدس، والغائب عن الأعوام منذ العصور القديمة.

وهذا يأخذنا إلى قلب إنجازات أرخميدس، الذي وُلِد قبل الميلاد في سيراكيوز واشتهر بفضل نظريته عن الطفو واستخدام الروافع. لكن إرثه يتجاوز ذلك بكثير، إذ كان السبّاق في تطبيق مفاهيم الحساب المتكامل، وهو ما يُعتبر أساس التفاضل والتكامل الحديث، واستخدم مبادئ التكامل قبل نيوتن وليبنتز بما يقارب ألفي عام! المخطوطة نفسها كشفت أيضاً أن أرخميدس فكّر في مسائل التركيبات والاحتمالات، ما يشبه علم الحوسبة والبرمجة اليوم.

الأسلوب العبقري الذي ستجدونه بين سطور الرسائل المخفية بالمخطوطة يُظهر أن أرخميدس اكتشف أجزاء من حساب المساحات والأحجام ومتتابعات الأعداد وحلول لمعادلات لم تتبلور نظرياً إلا بعد عصر التنوير الأوروبي. العلماء في ستانفورد والعديد من الجامعات الكبرى أكدوا أن اكتشافات أرخميدس لو وصلت مبكرًا كانت كفيلة بتبكير الثورة الصناعية وحتى الثورة المعلوماتية بعدة قرون. يصف أحد الخبراء صراحة: "لقد خسرنا قرونًا من التقدّم"، لأن الكنوز الفكرية لأرخميدس كانت غائبة تمامًا في الوقت الذي كان العلم الأوروبي في أمس الحاجة إليها.

وهنا نكتشف المفارقة، فعملية محو المخطوطات القديمة لم تكن فعلاً متعمداً لمحو العلم، بل كانت بسبب ندرة الرق وقيمته في العصور الوسطى. ببساطة، كان الرهبان يعملون على إعادة استخدام المخطوطات لكتابة نصوص دينية ضرورية لتلك الحقبة. وما حدث لاحقًا هو أن تقنية التصوير الطيفي المستخدم في مركز والترز الفني ومختبرات ستانفورد مكّنت الباحثين من كشف نص أرخميدس المخفي رغم عمره الذي تجاوز الألفي سنة! وهكذا ظهرت للسطح نظرية "ستومكيون"، وهي من أقدم النظريات الرياضية المعنية بالاحتمالات والكومبيناتوريات والحساب الميكانيكي.

ذو صلة

ولأن المخطوطة عانت من الرطوبة والعفن والشموع، فإن أجزاءً كبيرة منها لا تزال خارج نطاق القراءة حتى اليوم رغم التطور الهائل في وسائل التصوير والتحليل. عالم المخطوطات الشهير ويليام نويل أوضح أنه في كل صفحة ننجح في قراءتها تهاجمنا أسئلة جديدة وتزداد حسرتنا على ما فقده العالم بسبب الإهمال أو الصدفة.

في النهاية، تلخص هذه القصة كيف يمكن لمصادفة صغيرة أن تغيّر مسار التقدّم العلمي، وتُعَلِّمُنا أهمية حفظ المعرفة وحمايتها من النسيان أو الضياع. من أرخميدس، وصولاً إلى ثورة المعلومات اليوم، الطريق لم يكن ولن يكون معبَّدًا دائماً، وربما كنوز أخرى لا تزال مخبأة تنتظر من يكشف عنها لتغير وجه الحضارة من جديد.

ذو صلة