نملة من الجحيم تعود إلى الحياة: أقدم أحفورة تكشف أسرار الافتراس قبل 113 مليون عام

3 د
تم اكتشاف أقدم أحفورة معروفة للنمل في شمال شرق البرازيل، تعود إلى 113 مليون عام، محفوظة داخل صخور تكوين كراتو.
تنتمي الأحفورة إلى فصيلة نمل الجحيم المنقرضة، وتُظهر فكوكاً أمامية ونتوءاً على الرأس، ما يدل على سلوكيات افتراسية متخصصة مبكرة.
يشير الاكتشاف إلى أن انتشار النمل عبر القارات بدأ قبل تفكك غوندوانا، مخالفاً للنظريات التقليدية حول أصل النمل.
تفتح الدراسة آفاقاً جديدة لفهم تطور الكائنات الاجتماعية القديمة باستخدام تقنيات تصوير متقدمة، وقد نشرت في دورية Current Biology.
في إنجاز علمي استثنائي، عثر فريق من الباحثين على أقدم أحفورة معروفة للنمل حتى الآن، يعود تاريخها إلى 113 مليون عام. هذا الاكتشاف، الذي وُصف بأنه نقطة تحول في فهم تطور النمل وانتشاره عبر العالم خلال العصر الطباشيري، يلقي الضوء على سلوكيات افتراس قديمة غير معهودة، ويرسم صورة جديدة لمراحل مبكرة من تاريخ هذه الحشرات المعقدة.
تفاصيل الاكتشاف
وُجدت الأحفورة في شمال شرق البرازيل، محفوظة داخل صخور من الحجر الجيري ضمن تكوين كراتو الشهير، وهو موقع جيولوجي غني بالأحفوريات يتميز بقدرة استثنائية على الحفاظ على التفاصيل الدقيقة للكائنات القديمة. وكشفت الدراسة المنشورة حديثاً في دورية Current Biology أن هذه العينة تنتمي إلى فصيلة "هايدوميرميسيناي" المنقرضة، المعروفة شعبياً باسم "نمل الجحيم"، بسبب مظهرها المرعب وفكّيها الفريدين اللذين يتحركان رأسياً وليس أفقياً مثل باقي أنواع النمل الحديثة.
وفقاً للباحث الرئيسي في الدراسة، أندرسون ليبيكو، فإن أهمية هذا الاكتشاف لا تكمن فقط في كونه أقدم سجل جيولوجي مؤكد للنمل، بل أيضاً لأنه يقدم دليلاً مباشراً على وجود سلوكيات افتراسية متخصصة للغاية منذ المراحل المبكرة من تطور هذه الحشرات. يقول ليبيكو: "رغم أن فصيلة نمل الجحيم كانت جزءاً من سلالة قديمة جداً، إلا أن هذه العينة تُظهر بالفعل ميزات تشريحية متطورة بشكل مذهل، ما يدل على تكيفات صيد فريدة قد تطورت مبكراً".
تكنولوجيا متطورة تكشف التفاصيل
استخدم الفريق تقنيات التصوير بالأشعة المقطعية الدقيقة ثلاثية الأبعاد لإعادة بناء الأحفورة بدقة غير مسبوقة. وكشفت التحاليل أن النملة القديمة كانت تمتلك فكّين بارزين للأمام، بدلاً من الفكوك الجانبية المعتادة، إضافة إلى نتوء شبيه بالقرن على رأسها، مما كان يساعدها على تثبيت فرائسها بإحكام قبل الانقضاض عليها.
المثير للانتباه أن هذه السمات التشريحية تتطابق مع تلك التي عُثر عليها سابقاً في حفريات نمل الجحيم ضمن عينات الكهرمان المكتشفة في بورما، مما يشير إلى أن هذا النمط من النمل كان أكثر انتشاراً جغرافياً خلال العصر الطباشيري مما كان يعتقد سابقاً.
تحدٍّ للنظريات التقليدية
قبل هذا الاكتشاف، كانت الاعتقادات السائدة تشير إلى أن نشوء النمل وانتشاره كان محصوراً بجغرافية قارتي آسيا وأوروبا. غير أن وجود نملة الجحيم المتخصصة هذه في أمريكا الجنوبية، وتحديداً قبل تفكك قارة غوندوانا، يفرض إعادة النظر في النظريات التقليدية حول كيفية تشتت النمل عبر الكتل القارية.
يشير ليبيكو إلى أن هذا الاكتشاف:
"يكسر القيود الجغرافية القديمة المفترضة، ويعني أن هناك تواصلاً بيولوجياً مبكراً بين القارات قبل الانفصال التكتوني الكبير"
أبعاد تطورية وباليوبيولوجية جديدة
يتجاوز هذا الاكتشاف حدود إعادة رسم الخرائط الجغرافية؛ إذ إنه يقدم أيضاً رؤى جديدة حول الضغوط التطورية التي ربما دفعت أسلاف النمل إلى تطوير مثل هذه البنى التشريحية الغريبة. فالتعقيد الملحوظ في تصميم أدوات التغذية والافتراس لدى نملة الجحيم المكتشفة يدل على أن التطور السريع للتكيفات البيئية لم يكن سمة لاحقة فحسب، بل ربما كان عنصراً جوهرياً منذ البدايات الأولى للنمل.
وأوضح ليبيكو قائلاً: "كنا نتوقع العثور على سمات نمطية لنمل الجحيم، لكن الخصائص المذهلة لجهازها الغذائي فاقت كل توقعاتنا". وأضاف: "وجود نملة متخصصة إلى هذا الحد قبل 113 مليون سنة يدفعنا لإعادة تقييم التصورات السائدة عن وتيرة تطور الحشرات الاجتماعية وقدراتها الافتراسية المبكرة".
في النهاية، يمثل هذا الاكتشاف المذهل أكثر من مجرد إضافة إلى سجل الحفريات؛ إنه شهادة حية على مدى تعقيد الكائنات الحية حتى في أقدم عصور الأرض. ويعيد هذا الاكتشاف تأكيد أن أدوات العلم الحديث، مثل التصوير المقطعي الدقيق، يمكن أن تفتح آفاقاً غير مسبوقة لفهم أنماط الحياة المنقرضة. وبينما تتقدم أبحاث الحفريات والتطور، يبدو أن قصة النمل، هذه الحشرات التي أصبحت فيما بعد من أكثر الكائنات الاجتماعية نجاحاً على الأرض، ما زالت تخبئ الكثير من المفاجآت في طيات الزمن.