20 نانومتر من التشابك… الذكاء الكمومي يربط الذرات كما تربط المدن عبر الألياف

3 د
ابتكر باحثون من جامعة نيو ساوث ويلز وسيلة لجعل الذرات تتحاور عبر إلكترونات الوسائط.
يمثل هذا التقدم نقلة نوعية نحو تطوير معالجات كمية ضخمة باستخدام تقنية السيليكون.
التشابك الكمومي بين الذرات يعد جذراً أساسياً لقوة الحوسبة الكمية مقارنة بالأنظمة التقليدية.
تُظهر التجربة إمكانية دمج التكنولوجيا الجديدة مع البنية التحتية الحالية لصناعة الرقائق.
هذا الاكتشاف يمهد الطريق لبناء حواسيب كمية قابلة للتوسع على نطاق صناعي.
في إنجاز علمي جديد وصفه الباحثون بأنه أقرب لما يشبه “التحدث عبر الهاتف”، تمكن مهندسون من جامعة نيو ساوث ويلز الأسترالية من جعل ذرات متباعدة تتحاور عبر إلكترونات تعمل كوسائط اتصال. هذا التطور يمثل نقلة نوعية في مسار الحوسبة الكمية، إذ يفتح الباب أمام بناء معالجات ضخمة تعتمد على تقنية السيليكون الموجودة أصلاً في مجال تصنيع الرقائق الإلكترونية.
البداية كانت مع تجربة معقدة هدفها إثبات إمكانية ربط نواتين ذريتين من الفوسفور داخل شريحة سيليكونية، وإيجاد حالة *تشابك كمومي* بينهما، وهي الحالة التي تجعل الجسيمات مرتبطة ببعضها بحيث لا يمكن تفسير سلوك أحدها من دون الآخر. هذا التشابك هو العنصر السحري الذي يمنح الحواسيب الكمية قوتها الهائلة مقارنة بالأنظمة التقليدية.
وهذا يقودنا مباشرة إلى التحدي الأصعب في هذا الطريق: كيف نحافظ على عزلة كيوبتات الكم من الضوضاء الخارجية، ونفس الوقت نمنحها القدرة على التواصل مع غيرها لتنفيذ الحسابات.
كيف تحدّثت الذرات؟
الفريق البحثي استغل خاصية الدوران النووي (spin) لذرات الفوسفور المزروعة على شريحة من السيليكون فائق النقاء. وعلى مدار خمسة عشر عاماً، عملت المجموعة البحثية على إثبات أن الدوران النووي يعدّ “أنقى” الحالات الكمية الممكنة في المادة الصلبة. المشكلة الرئيسية كانت دائماً أن هذه العزلة تجعل من الصعب وصل تلك النوى الذرية ببعضها لتشكيل شبكة واسعة.
ومن هنا جاءت الفكرة: استخدام الإلكترونات باعتبارها الجسر، فهي قادرة على التمدد spatially داخل الشريحة، وبالتالي العمل كـ “هواتف” تسمح للنوى البعيدة بتبادل المعلومات.
وهذا الربط المباشر حول النقاش نحو نقطة أساسية أخرى: مدى قابلية هذه التقنية للتداول على نطاق صناعي.
النطاق الصناعي للإنجاز
ما يميز التجربة أن المسافة بين النواتين كانت حوالي 20 نانومتراً، أي ما يعادل جزءاً ضئيلاً من سمك شعرة الإنسان. قد تبدو صغيرة للغاية، لكن على مقياس السيليكون هذه هي المسافة الطبيعية التي تُبنى عندها الترانزستورات في الحواسيب والهواتف الحالية. هذا يعني أن التقنية الجديدة لا تتطلب مصانع غريبة أو معدات من خارج الصناعة القائمة، بل يمكن دمجها مع البنية التحتية التي استثمرت فيها صناعة الرقائق العالمية تريليونات الدولارات.
وبالتالي فإن هذا الاكتشاف لا يقتصر على كونه خطوة أكاديمية، بل يمثل جسراً حقيقياً نحو بناء كمبيوتر كمي يمكن تصنيعه بالأدوات الموجودة لدى الشركات بالفعل.
لتوضيح الصورة، شبّه أحد الباحثين الوضع السابق بأن النوى الذرية كانت “محبوسة في غرفة عازلة للصوت”، لا تسمع إلا من هم بجوارها. أما الآن، فبفضل الإلكترونات، صار بمقدورها استخدام “الخطوط الهاتفية” للتواصل مع جيران آخرين حتى على بُعد مسافات كبيرة نسبياً. وهذا يربط الاكتشاف مباشرة بمفهوم التوسع scalability الذي يعد الشرط الأهم في سباق الحوسبة الكمية.
ما الذي ينتظرنا لاحقاً؟
الباحثون يؤكدون أن التجربة ما هي إلا البداية. فقد أثبتوا أن ربط نواتين ممكن ويعمل بكفاءة، لكن الهدف القادم هو بناء أنظمة أكبر عبر التحكم بعدة إلكترونات وتمديدها لخلق شبكات معقدة من النوى المتشابكة. سهولة تحريك الإلكترونات والتحكم في شكلها يوفّر إمكانات هائلة لتطوير عمليات سريعة ودقيقة، وهو ما تحتاجه المعالجات الكمية للوصول إلى الأسواق.
وهكذا يتضح أن ما كان مجرد خيال قبل عقدين، يتحول تدريجياً إلى واقع، مستفيداً من نفس السيليكون الذي يدير هواتفنا وحواسيبنا.
في النهاية، هذا التقدم ليس مجرد خبر تقني، بل خطوة أخرى نحو عصر جديد قد يغيّر شكل الحوسبة جذرياً. فإذا كانت الحواسيب التقليدية قد صنعت الثورة الرقمية، فإن الحوسبة الكمية تعد بثورة تفوقها، ومع إنجاز اليوم يبدو أن الطريق بات أقصر بكثير مما كنا نتوقع.









