العلماء يحددون “زر الألم” في الدماغ… خطوة نحو نهاية المعاناة؟

3 د
اكتشف العلماء خلايا عصبية في الدماغ يمكنها إيقاف الألم المزمن.
تعمل هذه الخلايا كمفتاح تحكم يوازن بين الألم واحتياجات الحياة الأخرى.
تساعد الأبحاث في فهم دوائر الدماغ لإيجاد علاجات جديدة للألم المزمن.
يمكن أن تسهم العلاجات المستهدفة لهذه الخلايا في تخفيف تأثيرات الألم.
يطمح العلماء لاستخدام الاكتشاف في تدريب العقل للسيطرة على الألم.
هل يمكن للعقل أن يتحكم في معاناتنا؟ سؤال لطالما حيّر العلماء، لكن فريقاً من جامعة بنسلفانيا ومعهد سكريبس للأبحاث وجامعة بيتسبرغ يعتقد أنه وجد جزءاً من الإجابة. فقد تمكّن الباحثون من تحديد مجموعة من الخلايا العصبية في جذع الدماغ قادرة على «خفض حدة الألم المزمن» بل وإيقافه عندما تكون الحياة على المحك.
الأمر لا يتعلق بمسكنات أو علاجات تقليدية، بل بدوائر عصبية تعمل كمنظم داخلي يوازن بين الإحساس بالألم والحاجات الأساسية الأخرى مثل الجوع أو الخوف. وتقدّم هذه الدراسة، المنشورة في مجلة *نيتشر*، أملاً جديداً للملايين الذين يعيشون مع الألم المزمن.
وهنا تنتقل القصة من الجانب المخبري إلى معركة الجسم اليومية مع الألم المستمر.
خلفية: عندما يصبح الألم مزمناً
يشرح أستاذ علم الأعصاب **نيكولاس بيتلي** من جامعة بنسلفانيا أن الألم الحاد ضروري لبقاء الإنسان، فهو «إنذار سريع» يُجبرنا على الابتعاد عن مصدر الخطر. لكن المشكلة تبدأ حين يبقى الإنذار عالقاً حتى بعد شفاء الإصابة، مسبباً معاناة لا تتوقف. هذه الحالة، التي يعاني منها أكثر من 50 مليون شخص حول العالم، تنشأ عندما تظل دوائر الدماغ في حالة تأهب مفرطة يصعب تهدئتها بالعلاجات التقليدية.
ومن هنا ربط الباحثون بين فهم هذه الإشارات العصبية المزمنة والبحث عن مفتاح يمكن أن «يُخفت صوت الألم» في الدماغ نفسه بدلاً من محاولة تهدئة النهايات العصبية في الجسم.
الاكتشاف: خلايا Y1R وموازنة البقاء
في الدراسة الأخيرة، قام فريق بيتلي وزملاؤه بتحديد خلايا عصبية تُعرف باسم *الخلايا المعبرة عن مستقبل Y1* أو *(Y1R)* داخل منطقة في جذع الدماغ تُسمى النواة الجانبية للجسر (*lPBN*). هذه الخلايا لا تنشط فقط أثناء الألم المستمر، بل تشارك أيضاً في تنظيم مشاعر الجوع والعطش والخوف. يبدو أن الدماغ يستخدمها كـ«مفتاح تحكم» لتحديد أي إحساس يجب إعطاؤه الأولوية عند مواجهة مواقف تهدد الحياة.
وهذا يفتح الباب لفكرة جريئة: ربما يستطيع الدماغ، من خلال هذه الدائرة العصبية، أن يعلّق الشعور بالألم مؤقتاً عندما تكون هناك حاجة ملحّة أخرى، مثل البحث عن الطعام أو الهروب من خطرٍ وشيك.
كيف يعمل «مفتاح الألم»؟
يُعتقد أن العامل الكيميائي المسؤول عن هذا التأثير هو **الببتيد العصبي Y**، وهو جزيء يفرزه الدماغ لموازنة احتياجات البقاء. عند تنشيطه، يرتبط هذا الببتيد بمستقبلات Y1R ليكبح النشاط العصبي الذي ينقل إشارات الألم المستمرة. يصِف الباحثون ذلك بأنه «آلية تجاوز» تسمح للعقل بإسكات الألم عندما تكون موارد الجسم مطلوبة لأغراض أهم.
يقول الباحثة **نيتسان غولدستاين**، التي شاركت في التجربة: «إذا كنت جائعاً بشدة أو تشعر بالخوف، فليس أمامك ترف الاستسلام للألم. الدماغ ببساطة يُخفّض مستوى الإحساس حتى تلبّي احتياجات البقاء».
وهذا يقودنا إلى نتيجة أكثر عمقاً تتمثل في أن إدراكنا للألم ليس مجرد استجابة جسدية، بل قرار عصبي ديناميكي يتغير بحسب الأولويات.
آفاق جديدة للعلاج
تكشف النتائج أن خلايا Y1R موزعة في الدماغ بنمط فسيفسائي، الأمر الذي قد يفسّر تنوع استجابات الناس للألم المزمن. ويأمل العلماء أن تسهم هذه المعرفة في تطوير مؤشرات بيولوجية أو علاجات تستهدف هذه الخلايا مباشرة. هذا المنظور الجديد يغير طريقة تعامل الطب مع الألم، إذ لم يعد التركيز على موقع الإصابة فحسب، بل على الدوائر العصبية التي «ترمز» الألم ذاته.
ويتوقع الباحثون أن تمتد التطبيقات إلى مجالات مثل التدريب الذهني أو التأمل أو العلاج السلوكي، إذ يمكن لهذه السلوكيات أن تعيد ضبط نشاط هذه الدوائر بنفس آلية الجوع أو الخوف التي لاحظوها في المختبر.
المستقبل: نحو دماغ قادر على تهدئة نفسه
ما يثير الحماس في هذا الاكتشاف أنه يفتح الطريق لعلاج لا يعتمد فقط على العقاقير، بل على تمكين الإنسان من إعادة برمجة دماغه لخفض الألم المزمن بطرق سلوكية أو فسيولوجية. فكما يقول بيتلي، «إذا تمكّنا من استهداف هذه الخلايا أو التدريب على تعديل نشاطها، فقد نكون أمام بداية نهاية الألم المزمن كما نعرفه».
يبدو أن الدماغ يمتلك بالفعل مفتاحاً داخلياً للألم… كل ما علينا فعله هو التعلّم كيف نشغّله في الوقت المناسب.









